مفاتيح عملية الاستنباط الفقهي (2ـ3)
لا يخفى على المتابع بأنَّ الدخول لاستنباط أي حكم شرعي فرعي منوط بممارسة عملية اجتهادية استنباطية لها أبعاد متنوّعة، عبرّنا عن هذه الأبعاد ـ فيما سبق ـ بالمفاتيح التي تمكّن الداخل من الولوج في العلمية الاستنباطية بشكل سليم.
وقبل أن ندخل في تفاصيل البحث لابد من التعرض إجمالاً لعدة مقدمات:
المقدمة الأولى: جواز عملية الإفتاء
وقع الخلاف بين الأعلام السابقين في جواز ومشروعية عملية الإفتاء استناداً إلى مضمون الروايات الواردة عن الرسول وأهل بيته عليهم السلام (ليكون ذلك مسوّغاً لفتح بحث في العناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم الشرعي) أم أنَّ أهل البيت عليهم السلام نهوا عن ممارسة هذه العملية، ونعتوها بنعوت سلبية لأسباب تحمّل البحث في تأريخ العلوم محاولة الكشف عنها؟
إذا ما فسّرنا الاستنباط بعملية تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة تحديداً استدلالياً ستكون إجابة سؤالنا المتقدم بديهية؛ إذ إنَّ الإنسان ملزم بتحديد موقفه تجاه الشريعة وأحكامها، وحيث أن الكثير من الأحكام الشرعية غير واضحة وغير جلية تحتم تسويغ عملية الاستنباط بغية الحصول عليها. لكن مفهوم الاجتهاد مرّ بتطورات دلالية عديدة ومن ثمَّ تداعيات متنوعة، تشكلت على أساسه مواقف مختلفة، فذهب بعض المتقدمين إلى جوازه واختار الأغلب منهم عدم الجواز. وبغض النظر عن كل ما تقدم فنحن نبني على النتيجة الحتمية التي وصلت إليها أبحاثنا المعاصرة وهي جواز هذه العملية دون أي تأمل وشك([1]).
المقدمة الثانية: الاستنباط ممارسة وليس نظرية فقط.
إنَّ العملية الاستنباطية لن يكتب لها النجاح دون دخول صاحبها في ميادين العمل الاستنباطي ليمارسها ممارسة عملية، ودون هذا الدخول لا يمكن أن يجيد عملية الاستنباط أصلاً، ويبقى حاله كمن تعلم صنعة وحرفة في الكتب فقط، دون أن يمارس هذه الحرفة ويتقنها بشكل عملي. فالعملية الاستنباطية ليست محض علوم نظرية يتلقاها الدارس بشكل نظري، بل هي ممارسة عملية لابد من الدخول عملاً لإتقان خصوصياتها وقوانينها.
وتأسيساً على ما تقدم نرى بأن عملية استنباط الحكم الفقهي تتقوّم ببعدين:
1ـ البعد النظري
المجال الاستخدامي لمجموعة من الأدوات النظرية التي تدخل في هذه العملية، وهي بطبيعة الحال أوسع مداراً من علم الأصول المتعارف كما أسلفنا، وأكدنا طبيعة هذا البُعد في الماضي من الأبحاث.
2ـ البعد العملي
الدخول لممارسة هذه العملية الاستنباطية عملاً وتطبيقاً؛ إذ هي فنّ وصنعة لابد أن يمارسها الممتهن لها كي يصح إطلاق اسم المستنبط عليه.
أما من يريد الدخول لاستنباط حكم شرعي من غير هذين البعدين لا يمكن أن يُكتب له النجاح في مبتغاه، بل يبقى ـ مع طول مدة اشتغاله في الجانب النظري ـ غير قادر على ممارسة هذه العملية.
المقدمة الثالثة: الاستنباط الفقهي بين الاحترازية والتوضيحية؟
قد يسأل سائل عن السر الذي جعلنا نقيّد هذه المفاتيح بكونها مختصة بعملية الاستنباط الفقهي، فهل جاء هذا التقييد للاحتراز من دخول الأغيار، أم أنه توضيحي ليس إلا؟
وفي مقام الإجابة عن هذا التساؤل نقول: إنَّ لكل علم من العلوم مفاتيحه الخاصة به، فهناك (مفاتيح فلسفية) و (مفاتيح عرفانية) و(مفاتيح كلامية) و(مفاتيح تفسيرية) وهكذا بقية العلوم…وهذا يؤكد احترازية هذا القيد المضاف؛ حيث أن هذه المفاتيح هي لاستنباط الحكم الشرعي فقط.
والأمر أعلاه يكشف عن بطلان ذلك التوهم الحاصل في أذهان بعض المتعلمين؛ حيث تصوّروا بأن الوقوف على علم أصول الفقه كافٍ في إتقان مفاتيح جميع العلوم الأخرى؛ استناداً إلى مصادرة باطلة مفادها: إنَّ الاجتهاد في هذا العلم يؤهل المجتهد فيه إلى الاجتهاد في العلوم الأخرى.
لكن هذا التصوّر غير تام؛ إذ لكل علم من العلوم مفاتيحه الخاصة به، نعم هناك أبواب مشتركة في الظاهر بين جميع هذه المفاتيح، إلا أن حيثيات استخدامها الواقعية تختلف من علم إلى علم آخر([2]). فالاحتياج الذي يحوجنا إلى مسألة الظهور في علم أصول الفقه إنما هو من ناحية تنجزيه وتعذيره، خلافاً لحيثية الاحتياج إلى هذه المسألة في البحث التفسيري، والتي تقتصر على الكاشفية عن الواقع وعدمها. فلا مانع من تداخل المسائل في العلوم نظراً لتعدد حيثياتها.
المقدمة الرابعة: التطورات البحثية لمفهوم الاجتهاد، أسبابها ووجوه تفسيرها.
لا يشك متابع في حصول تطورات بحثية عميقة في مفهوم الاجتهاد؛ حيث أضحت العملية الاجتهادية عملية معقّدة تحتاج إلى مزيد من العلوم والمعارف كي يتمكّن الإنسان من الوصول إلى النتيجة المرجوّة منها، خلافاً لمفهوم الاجتهاد في الأزمنة السابقة؛ إذ إنَّ من يقرأ عدة الشيخ عليه الرحمة ومبسوطه يصبح أصولياً وفقيهاً بامتياز، كما إنَّ تأليفات فقهاء ذلك العصر في ميادين معرفية مختلفة تكشف عن بساطة ذلك المفهوم الذي لا يعدو تتبع مجموعة من العلوم والمسائل البسيطة.
أما عصرنا الحاضر فلعل دعوى تعقيد العملية الاجتهادية وتركيبها دعوى لا تحتاج إلى مزيد مؤونة إذا ما لوحظت آثار الأعلام المعاصرين الفقهية. وهي عملية طبيعية يمكن تفسيرها من جهات نذكر أهمّها:
الأولى: ازدياد حاجات الإنسان.
لا شك في محورية الإنسان في عموم البحث الديني؛ حيث جاءت النصوص الدينية لتقويم مسيرته وترشيدها، ومن هنا فتوسّع احتياجات الإنسان وتطورها يلقي بظلاله ـ بطبيعة الحال ـ على نفس البحث الديني، والذي يُعنى بإعطاء منطق لحياة البشرية بشكل عام.
لقد بدأت حاجات الإنسان المعاصر تفوق حاجات نوعه الذي عاش في القرن المنصرم بعشرات المرات، فضلاً عن تفوقها على حاجات الإنسان القديم الذي لم يكن في أفقه حاجات خارجة عن حيطة وجوده البسيط (=بيته +زوجته+أولاده+مأكله+ملبسه)، فعلاقات الفرد المعاصر (أسرية واجتماعية ودولية وما إلى ذلك من أنواع العلاقات الأخرى…) تمتلك أبعاداً معقّدة وبعيدة الأفق، وبحاجة ماسة إلى فقه يفلسف مشروعيتها وهدايتها([3]).
وفي سياق محورية الإنسان في العملية الفقهية لا بأس التذكير بهذه النقطة:
لا يستقيم الدخول للبحث الفقهي إلا بعد التأسيس للرؤية المختارة في تفسير حقيقة الإنسان إمّا اجتهاداً وإما تقليداً، ومن غير ذلك يبقى البحث غير منضبط برباط معرفي يبرر إشكالياته. أمّا كيفية حلحلة إشكالية التقليد في العملية الاجتهادية فيمكن الإجابة عنها بنفس الإجابة التي قُدّمت لإشكالية الأخذ بقول اللغوي. وبجواز الاستناد إلى أصوله الموضوعية يمكن أن يجاب على الأصول الموضوعية المأخوذة من العلوم أخرى.
إنَّ تحديد الرؤية تجاه ثبات وتغيّر الإنسان أمر ضروري لطبيعة رؤية الباحث للاستحقاقات الفقهية، فهل أن الكائن البشري ثابت، أو متغيّر، أو بعضه ثابت وبعضه متغيّر؟ وطبيعة هذه الرؤية سوف تحدد طبيعة الرؤية للفقه المختار من قبل الباحث، فلو اخترنا تغيّر بعض حيثيات الكائن الإنساني ـ كما هو مختار العديد من المعاصرين ـ فسوف يلازم ذلك اختيار تغيّر الفقه المرتبط بهذه الحيثية المتغيّرة، وهذه هي أحد نتائج الإشكالية السيّالة في اغلب العلوم، وهي إشكالية العلاقة بين الثابت والمتغيّر([4]).
ولعل هذه النقطة هي التي حدت بالأستاذ الشهيد إلى افتراض منطقة فراغ في الشريعة الإسلامية، منطقة يُترك المجال فيها مفتوحاً لولي الأمر لملأها بما يراه مناسباً وفقاً لتقديراته وملاكاته الفوقانية([5]).
الثانية: الابتعاد عن عصر النصّ.
لقد جاءت النصوص الدينية في ظروف اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية معينة، وبالتالي تختلف درجات الوعي التي يمتلكها الأفراد في تلك البرهة من الزمن، وبدهي أن مثل هذه الظروف واختلاف درجات الوعي يوجد عقبات كبيرة في فهم النص الديني، ويعقّد العملية الاجتهادية بشكل كبير.
إن ما هو لازم على الفقهاء المعاصرين إيجاده هو حلول معمّدة بالمسوّغ الشرعي السليم تعنى بالإجابة الواضحة على جميع وقائع الحياة المعاصرة. ولا توجد هناك مندوحة من القيام بهذه العملية وفق الأفق الذي نؤمن ونسلّم به وهو أن الشريعة الخاتمة جاءت لتغطي كل احتياجات الإنسان من هذه الزاوية، فحيث أن العصر هو عصر الغيبة فلابد أن تلبى مثل هذه الاحتياجات، ودون ذلك نواجه إشكاليات خطيرة جداً على المستوى الإيماني والعملي تفقد البشرية على أساسها إيمانها بخاتمية هذه الشريعة كما بدا ذلك واضحاً للبعض في الآونة الأخيرة([6]).
دعوة هذا البحث تؤكد على ضرورة النهوض بأعباء البحث النقدي في داخل مؤسساتنا العلمية، وبذلك ننفض ركام التراب المعشعش في داخل أروقتنا التقليدية، لتتحوّل سمة مواقفنا من ردة فعل تنتظر أفعال الآخرين لتقوم بعملها، إلى فعل يوصد الباب أمام جميع الإثارت غير المدللة.
إن الواقع الاجتماعي مسؤول بالدرجة الأولى بإعطاء حوادث متنوّعة من ميادين مختلفة للحقل الفقهي الاستنباطي بغية إيجاد شرعنة مدللة لها، وهي ظاهرة صحية تسهم في نمو وتطوّر، وبالتالي نُضج العملية الاجتهادية، هذه العملية التي تفتقر في تطورها ونموها إلى روافد من جميع العلوم الأخرى للحيلولة دون جمودها وتحجّرها.
وللإشارة إلى ضرورة تفعيل هذا الجانب الرفدي ـ إن جاز مثل هذا التعبير ـ في تطوير العملية الاجتهادية نشير إلى كلمات بعض الأعلام المعاصرين:
(1) السيد الشهيد محمد باقر الصدر في معالم الأصول:
نوّع الأستاذ الشهيد الروافد الأساسية للفكر الأصولي، أو مصادر إلهام العملية الاستنباطية ـ على حدّ تعبيرناـ إلى عدة روافد:
الرافد الأول: بحوث التطبيق الفقهية.
الرافد الثاني: بحوث علم الكلام.
الرافد الثالث: البحوث الفلسفية.
الرافد الرابع: الظرف الموضوعي الذي يعيشه المفكّر الأصولي.
الرافد الخامس: عامل الزمن.
الرافد السادس: عنصر الإبداع الذاتي([7]).
(2) السيد السيستاني في كتاب الرافد.
بعد ما وصف السيد السيستاني ـ في كتاب الرافد ـ الفترة التي نعيشها بأنها تمثّل الصراع الحاد بين التطرفات الإسلامية والتطرفات الأخرى جراء عوامل اقتصادية وسياسية معينة، رأى ضرورة القيام بمهمة تطوير علم أصول الفقه (وهي مفاتيح عملية الاستنباط الفقهي بتعبيرنا)، وبغية انجاز هذا التطوير لابد من الاستمداد من عدة حقول: كالحقل الفلسفي والحقل القانوني والحقل النفسي والحقل الاجتماعي وما إلى ذلك من الحقول المتعددة الأخرى…ودون ذلك لا يمكن للعملية الاستنباطية الاستمرار والمواكبة مع متطلبات العصر الحديث، بل تبقى أسيرة الحوادث التراثية السالفة التي أثارت أسئلة الرواة في عصرهم([8]).
وإذا كان الأمر كذلك فلا ضرورة لحصر مثل هذه الحقول المتعددة تحت راية ما يسمى بعلم الأصول، بل هي استمدادات متنوّعة من علوم مختلفة لا جامع ماهوي بينها.
أقسام المسائل المساهمة في العملية الاستنباطية
أشرنا فيما تقدم إلى ضرورة الإجابة على مجموعة من الأسئلة قبل الدخول في أبحاث هذه المفاتيح؛ وذلك لأن البحث الذي نزمع الدخول فيه ليس بحثاً أصولياً أو فقهياً بالمعنى الاصطلاحي، بل هو ممارسة تطبيقية عملية لاستنباط الحكم الشرعي.
وعلى أساس هذين الركنين يتضح بأنَّ هذا البحث لا يقتصر على المسائل الأصولية والفقهية فقط، بل يتناول أهم الأبحاث المرتبطة بعملية الاستنباط، سواء أكانت مرتبطة بـ (علم الأصول) أو بـ (علم الكلام) أو بـ (نظرية المعرفة)…إلى ما هنالك من العلوم الأخرى من تلك الحيثية التي لها ارتباط بعملية استنباط الحكم الشرعي.
ويمكن أن نقسم المسائل التي تدخل في عملية الاستنباط إلى أربعة أنواع:
النوع الأول: المسائل التي طُرحت في علم من العلوم، ونقّحت بشكل دقيق ومفصل في محله. ودخول الأعلام في مثل هذه المسائل هو دخول تقليدي في أغلب الأحيان؛ لوضوح أن المسألة قد حررت وبحثت بشكل دقيق ومفصّل في محلها، فلم تعد حاجة لتحريرها مرة ثانية، إلا أن يكون الأصولي والفقيه محققاً في مثل هذه المسائل فيضطر إلى بحثها مرة ثانية([9]).
ولعل أوضح مثال لهذا النوع من المسائل هي الأبحاث الفلسفية التي تدخل في كثير من المجالات الأصولية [رغم إنَّ أغلب الأعلام لا يعيرون الأهمية المطلوبة لهذه المسائل] فالخلاف في مسألة (أصالة الوجود واعتبارية الماهية) يؤثر على طبيعة البحث في المسألة الأصولية المعروفة وهي: أنَّ (الأمر يتعلق بالطبايع أم بالأفراد؟)، فإذا اخترنا كون الوجود هو الأصيل فهو مستلزم لكون الأمر متعلق بالأفراد، أمّا إذا اخترنا كون الأصيل هو الماهية فسوف يتعلق الأمر بالطبائع كما قرر ذلك في محله. أو مسألة (اجتماع الأمر والنهي) حيث ربط جملة من الأعلام هذه المسألة بنتائج مسألة أصالة الوجود وأصالة الماهية([10]).
النوع الثاني: وهي المسائل التي ترتبط بعلم آخر (كعلم الكلام مثلاً) ولكن عنونت في أبحاث خارجة عن محلها الأصلي؛ لعدم بحثها هناك، أو أنها بحثت هناك، لكن حيث لا حضور لعلم الكلام في حوزاتنا العلمية فيضطر المستنبط للحكم الشرعي بحثها، نظير مسألة قبح العقاب بلا بيان (البراءة العقلية) ، أو مسألة حدود حق الطاعة (الاشتغال العقلي)، فهل هو شامل للمقطوعات فقط، أم أنه يشمل المقطوعات والمظنونات والمشكوكات والموهومات ما لم يقطع بالعدم كما هو مختار السيد الشهيد الصدر عليه الرحمة.
النوع الثالث: المسائل التي بحثت في محلها بشكل دقيق ووافٍ إلا أن فيها حيثيات لم تبحث. وهذا الصنف من المسائل كثير الاستخدام في عملية الاستنباط الفقهي، ويدخل تحت مظلته الكثير من الأبحاث اللغوية (المعنى اللغوي والمشتق…الخ) مما لا علاقة لها بعلم الأصول، بل هي من مقدمات البحث الأصولي، لكن حيث أن لمثل هذه الأبحاث حيثيات لم يعرض لها علماء اللغة اضطر الأصولي إلى استحداث عناوين لها، من قبيل إمكانية جريان الإطلاق ومقدمات الحكمة في المعني الحرفي.
النوع الرابع: وهي المسائل التي بحثت في محلها ونقحت بكل حيثياتها، لكن هناك مسالك واتجاهات مختلفة فيها تترتب عليها عدة نتائج، فيضطر المستنبط للحكم الشرعي إلى ذكر هذه الاتجاهات ليختار اتجاهاً منها. من قبيل البحث الفلسفي الكلامي المشهور في حقيقة أحكام العقل العملي، هل هي أحكام مشهورة تواضع عليها العقلاء حفظاً لنظامهم وإبقاءً لنوعهم، أم أنها أحكام واقعية نفس أمرية ثابتة في لوح الواقع الأوسع من لوح الثبوت([11]).
ومما تقدم يتضح بأن عملية الاستنباط الفقهي لا تتوقف على نوع واحد من المسائل فقط، بل هي رهين تحقيقِ مجموعةٍ من المسائل الفلسفية (أصالة الوجود أو الماهية مثلاً) واللغوية (المعنى الحرفي والمشتق مثلاً) والاجتماعية ( أبحاث السيرة العقلائية مثلاً) وغيرها من العلوم الأخرى.
وتأسيساً على ما تقدم يتضح أن لا وجود لموضوع جامع لهذه المسائل تترتب عليه أعراضه الذاتية؛ وذلك لأنَّ هذه موضوعات هذه المسائل خليط بين الحقيقة والاعتبار، فلا يمكن أن نطبق عليها قاعدة أن لكل علم موضوع خاص به، يبحث عن عوارضه الذاتية. نعم يمكن أن يُفرض لها جامع انتزاعي أو اعتباري، إلا أنه ليس بموضوع حقيقي في نهاية المطاف.
وقبل أن نختم الحديث في هذه المقدمات الضرورية لابد أن نشير إلى أن التمايز الحاصل بين مسائل بحثنا [مفاتيح عملية الاستنباط الفقهي] هو تمايز غرضي فقط.
فعلم الأصول كما أكدته أبحاثنا الأصولية ليس بعلم بالمعنى الاصطلاحي [بمعنى أن له موضوع وعوارض ذاتية] ولو سلمنا جدلاً ذلك فتمايزه عن غيره من العلوم ليس بالموضوع، بل هو تمايز غرضي فقط، وهذا ما صرّحت به كلمات جملة من الأعلام، حيث فرضت طريقين لطبيعة التمايز الحاصل بين العلوم، أمّا بالموضوعات (إذا كانت حقيقية ولها عوارض ذاتية) وإما بالأغراض والآثار المترتبة عليها (كما هو الحال في ما يسمى بعلم الأصول) ([12]).
([1]) ولعل الخلاف في هذه المسألة هو الذي حدا بأعلامنا في صدر الغيبة القيام بنقل مضامين الروايات الواردة عن أهل بيت النبوة عليهم السلام في كتبهم الفقهية، حتى وقع الخلاف ـ والكلام للشيخ الطوسي ـ في تفسير هذه النصوص، فهل هي نصوص روائية، أم أنها فتاوى شرعية؟
وللوقوف على التطور الدلالي لهذا المفهوم وتداعياته المفصّلة ننصح بالعودة إلى: المعالم الجديدة في الأصول، السيد الشهيد محمد باقر الصدر، المؤتمر العالمي للإمام الشهيد: ص37 وما بعدها. دروس في علم الأصول، السيد الشهيد محمد باقر الصدر، دار المنتظر، 1405هـ ق: الحلقة الأولى، ص وما بعدها 45.
([2]) وهذه النقطة تشير إلى خطأ شائع آخر في أجوائنا العرفية والحوزوية أيضاً، وهي إشكالية الأعلم؛ فما لم يقيّد هذا الموضوع بعلم [الأعلم في الكلام، الأعلم في التفسير، الأعلم في الفلسفة...) لا نرى تسويغاً مناسباً لطرحه؛ فمع هذا التوسّع الهائل الذي طال جميع العلوم يصح لنا التشكيك ـ بقوة ـ في مثل هذه المقولات. بل يمكن لنا إدعاء التعميم في داخل نفس العلم الواحد، فمن كان أعلماً في باب الصلاة مثلاً، لا يؤكد ذلك أعلميته في باب المعاملات مثلاً، ومن كان أعلماً في باب القضاء مثلاً، فلا يلازم أعلميته في باب الصوم. والمستقبل الحاضر والقريب كفيل في إبراز تدليل واضح على هذا القول.
([3]) لا يخفى بأنَّ هذه الفرضية مبنية على أصل موضوعي يؤمن به البحث وهو: أن الفقه الإسلامي صالح لكل زمان ومكان. ومع إنكار أو بطلان مثل هذا الأصل الموضوعي لا مجال لهذه الفرضية.
([4]) أشرنا إلى بعض الملامح الثقافية لهذه القاعدة في كتاب معالم التجديد الفقهي.
([5]) ولعل هذا هو أحد أبرز الأجوبة المقدّمة من قبل الأعلام لتبرير عملية تغيّر الفتوى.
([6]) لا يقال: إنَّ افتراض كون العملية الاجتهادية مشككة يوحي بعدم قبول اجتهاد السالف من فقهائنا وفقاً لمقاييس هذا العصر، وهو أمر يصعب تصوره في أجواءنا العلمية.
فإنه يقال: لا إشكال في أن اجتهاد كل عصر محكوم بظروف واستحقاقات ومقاييس عصره، وعليه تنحصر فقاهة واجتهاد كل فقيه في دائرة العصر والاستحقاقات التي أفرزته، ومن هنا يضحى تصوّر مثل هذه الفرضية أمر في غاية السهولة إذا ما لوحظ ما أشرنا إليه من توسّع العملية الاجتهادية؛ فتعقيد عملية الاجتهاد ودخول العديد من الاختصاصات البحثية فيها أدّى إلى صعوبة القيام بهذه العملية دون التترس بقطّاع واسع من المعلومات المعاصرة. ولعل تقريب هذه الفكرة بمثال من العلوم الطبيعية يعدّ نافعاً جداً، فالاختصاصات الطبيّة التي تشعّبت وتنوّعت في مجال الجراحة وزراعة الأعضاء والجملة العصبية والاختصاصات الباطنية لا يمكن أن يكون الطبيب ـ مهما كان حاذقاً ـ أن يجمع في عمره المتعارف فيها، بل حتى في إطار ودائرة عمر أكبر وأوسع لا يمكن ـ بل يستحيل ـ للإنسان أن يلمّ بمثل هذه التخصصات المتشعبّة.
([7]) للوقوف مفصلاً على هذه الروافد لاحظ: المعالم الجديدة في الأصول، السيد الشهيد محمد باقر الصدر، المؤتمر العالمي للإمام الشهيد: ص37.
([8]) أنظر: الرافد في علم الأصول، محاضرات آية الله العظمى السيّد علي السيستاني، بقلم: السيّد منير السيّد عدنان القطيفي، نشر: مكتب السيد السيستاني، ط1، 1414هـ ق: ص 17 وما بعدها.
([9]) أشرنا فيما تقدم إلى ضرورة رفع اليد عن القاعدة الأرسطية المشهورة في مثل هذه الأبحاث، تلك القاعدة التي تؤكد على أن النتيجة تتبع أخس المقدمات؛ إذ ما من ممارس لعملية الاستنباط الفقهي إلا وهو مقلّد في بعض مقدماته اللغوية والنحوية والصرفية…الخ من العلوم الأخرى.
([10]) وهنا لا بد لي أن أنعى ما تعورف في حواضرنا العلمية من الإشارة إلى قوة فلان في الأصول أو قوته في الفقه؛ إذ أن العملية الاجتهادية عملية واحدة غير قابلة للتجزئة والتقطيع، القوة في أحدهما تؤثر على قوة الآخر، والضعف في أحدهما تؤثر في ضعف الآخر، وهذا يكشف عن كونهما مجال وميدان واحد. أجل؛ دوّن هذان العلمان [ علم الأصول وعلم الفقه ) بشكل منفصل رعاية لبعض الضوابط التدوينية، أما عملية استنباط الحكم الشرعي فهي عملية واحدة غير قابلة للتجزيء.
([11]) أنظر: بحوث في علم الأصول، السيد محمود الهاشمي، مباحث الدليل اللفظي ومباحث الحجج والأصول العملية، تقريرات الشهيد السعيد الأستاذ آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، ط2، شوال 1417هـ ـ 1997م: ص40 ـ 45.
([12]) أنظر: منتهى الأصول، السيد حسن الموسوي البجنوردي، كتاب فروشي بصيرتي: ص6ـ7.