مفاتيح عملية الاستنباط الفقهي
كتاب الخمس نموذجاً
اعتادت الأبحاث الفقهية المتأخرة أن تتخذ كتاب (العروة الوثقى) للسيد اليزدي قدس الله سره منهجاً في الدخول إلى أي باب فقهي يراد بحثه، فتكون طريقة عرض مسائل هذا الكتاب هي النهج في البحث لديهم؛ لمجموعة من الخصائص التي حملها هذا الكتاب حدت بالأعلام إلى اتخاذه منهجاً.
وقد يظن الطالب بأن دروسنا في بحث الخمس سوف تكون وفقاً لهذه الطريقة البحثية المتعارفة، إلا أن هذا الظن سوف يتبدد بعد معرفة أن المنهج المختار ـ والذي أسلفنا الحديث عنه مفصلاً في العام الماضي ـ لم يتخذ هذه الطريقة نهجاً في التدريس؛ وذلك لاعتقاده بأن مثل هذه الطريقة لا تجدي نفعاً في إيضاح ما نصبو إليه؛ لكونها ـ أولاً ـ تنطلق من أفق آخر فُهمت النصوص في دوائره وإطاره، ومدعانا عدم صلاحية مثل هذا الأفق لإنتاج صيغ فقهية تواكب الزمان والمكان، وثانياً: تعاملت هذه الطريقة مع الكثير من القواعد والأصول على أنها مسلمات مفروغة التحقيق والبحث سلفاً، مع أنها لم تنقح كما ينبغي في محلها، مضافاً إلى ذلك ـ وهذا ثالثاً ـ توفرّها بشكل كبير في حوزاتنا العلمية يمكن للطالب مراجعتها والحصول عليها بسهولة.
وكيف ما كان فينبغي أن لا يتوقع الطالب منا أن نقوم بمتابعة حرفية لمسألة مسألة من كتاب العروة الوثقى ومن ثم التعليق عليها، بل سنقتصر على بعض المباحث الأساسية في كتاب الخمس؛ لنطرح وجهة نظر المشهور إن وجدت؛ لنلاحظ عليها، ونطرح وجهة نظرنا التي نعتقد بصحتها في هذا المجال، وهو أمر يحوجنا بطبيعة الحال إلى ذكر الكثير من المقدمات.
إن قلت: إن لازم ما ذكرتموه الدخول في كثير من المباحث التفسيرية والكلامية؛ فإن بحث الخمس الذي عزمتم البحث فيه تتوقف الكثير من مباحثه على مجموعة من المقدمات التفسيرية والكلامية، كالدخول في المبنى المختار في طريقة تفسير الآيات القرآنية، وأن اللغة هي المقدَّمة في تفسيره أم النصوص الروائي؟ أو البحث الكلامي المعروف حول ثبوت الإمامة السياسية، وهل لحاملها حكم ولائي أم لا، وما هي خصائص هذا الحكم؟ أو البحث في تشخيص أن للإمام صلاحية إسقاط أو تجميد الأحكام الثابتة، فكيف جاز لكم أن تطرحوها في ثنايا البحث الفقهي، بل كان الأجدر بكم أخذها كأصل موضوعي مُحرّر في محله من علم الكلام أو التفسير، والدخول التفصيلي في هذه الأبحاث يعدّ خروجاً عن البحث الفقهي؟
قلت: رغم أقرارنا بتفسيرية وكلامية هذه الأبحاث، إلا أن الكثير من الأبحاث الكلامية والتفسيرية متداخلة مع الأبحاث الفقهية، ومترتبة بعضها على بعض، ودعوى ضرورة أخذها كأصل موضوعي محرر في محله باطلة؛ لعدم وجود تحرير سليم لهذه الأبحاث في دوائر الأبحاث التفسيرية والكلامية، من هنا فنحن اضطررنا لطرحها وتنقيحها بما يتناسب مع المقام، على غرار الكثير من الأبحاث التي طرحها علماء الأصول؛ حيث لم يجدوها مبحوثة في محلها، أو مبحوثة لكن بشكل مجتزئ، فاضطروا لبحثها وبيان الرؤية السليمة فيها.
ونتيجة لذلك رأينا ضرورة البحث بالشكل التالي: وذلك بأن نطرح الرؤية ونُؤسس لها (أولاً)، ومن ثمَّ نختار أبواباً فقهية متنوعة لاختبارها والبرهنة على صحتها (ثانياً). وعلى هذا الأساس جاء بحثنا في العام الماضي عن الزمان والمكان ـ بالمعنى المصطلح ـ وتأثيرهما في تغيير موضوعات الأحكام الشرعية، وعنينا بالزمان والمكان مجموعة الشروط والظروف التي تحيط بالموضوع ويُكوّن الموضوع في إطارها، وأسسنا في ضوء ذلك لمعالم النظرية المختارة (أي نظرية تأثير الزمان والمكان في موضوع الحكم الشرعي) ودللنا عليها بمجموعة من الأدلة والشواهد أيضاً من كلمات الأعلام، فضلاً عن النصوص المعتبرة.
وانسياقاً مع البحث الآنف الذكر اخترنا ـ سابقاًً ـ نماذج تطبيقية توزعت على عموم الأبواب الفقهية؛ طرحنا من خلالها وجهة النظر المشهورة في علاج هذه الأبواب وطريقة حلّ إشكالاتها، وطرحنا ـ أيضاً ـ وجهة نظرنا المختارة؛ فظهرت ثمرات ونتائج على كلا الوجهتين، ولا يخفى على المتابع الكثير من الشواهد على قصور ـ وربما بطلان ـ الوجهة التي يطرحها المشهور في المعالجة في بعض هذه الأبواب، وأبرزنا في نفس الوقت ـ أيضاً ـ العديد من الشواهد لتثبيت وجهة نظرنا المختارة.
فعلى سبيل المثال: إن موارد وجوب الزكاة والاحتكار والغناء والفرار من الأمراض المعدية واستلام الحجر الأسود والتطورات الطبية المعاصرة والخضاب… وما إلى ذلك من المفردات الفقهية كانت من أهم التطبيقات التي مضت وتقدّم الحديث حولها.
وفي سياق الأبحاث المتقدمة جاء بحث (الخمس)؛ لكونه ـ حسب وجهة نظرنا ـ مبحثاً هاماً يمكن من خلاله تطبيق واختبار وجهة النظر المختارة.