مفاتيح عملية الاستنباط الفقهي (6ـ7)
البحث الثالث:
أقسام موضوعات الأحكام الشرعية
السؤال الذي نعنى بالإجابة عليه في هذا البحث الثالث هو التالي:
هل إنَّ موضوعات الأحكام الشرعية جميعاً على نسق واحد، كي يُتعامل معها في طريقة الاستنباط والفهم والتشخيص بنحو واحد، أم أنها ليست جميعاً كذلك، وبالتالي يكون تشخيصها لترتيب الحكم عليها ليس بنحو واحد أيضاً؟
لا شك أن موضوعات الأحكام الشرعية ليست على نسق واحد، بل يمكن تقسيمها من هذه الحيثية إلى أقسام أربعة:
القسم الأول: الموضوعات المخترعة
وهي المواضيع التي اخترعها الشارع واستحدثها ابتداءً، مع إمكانية أن يكون لها أصل لغوي، إلا إن المرجع في تحديد دائرة صدق مفاهيمها طولاً وعرضاً هو الشارع المقدس، سواء أكان هذا الجعل بنحو الحقيقة الشرعية أو بنحو الحقيقة المتشرعية، كما في الخَبَث الذي وضعه الشارع لمعنى خاص معين، رغم أن معناه اللغوي قد يكون عاماً.
القسم الثاني: الموضوعات المركبة
وهي المواضيع التي استعملها الشارع في معانيها الخاصة بعد أن أضاف لها قيوداً وشروطاً وموانعاًً…الخ، كالبيع والإجارة والنفقة والوطن والسفر، فهي عناوين لم تُخترع من قبل الشارع، وإنما استعان بها بعد أن قيّدها بقيوده الخاصة([1]).
وقد أشار إلى هذا القسم (الموضوعات المركّبة) جملة من الأعلام نقتصر على نموذجين منهم:
1ـ بعد أن نقل صاحب الجواهر نصّ المحقق الحلي القائل: «لو وقف على الجيران رجع إلى العرف، وقيل لمن يلي داره إلى أربعين ذراعاً، وهو حسن»([2]). علّق قائلاً ـ في مقام المقارنة بين القولين (أعني العودة إلى العرف، أو من يلي داره إلى أربعين ذراع) ـ: بأنَّ مرجع الثاني قد يكون إلى الأول أيضاً([3])؛ ضرورة أنه تحديد للعرف بذلك، كما هو ديدن الشارع في مثل ذلك، كالوجه والمسافة ونحوهما مما يشك في بعض الأفراد منها، بعدم معرفة التحقيق في العرف على وجه يعلم الداخل فيه والخارج عنه، فيضبطه الشارع الذي لا يخفى عليه الشيء بما هو حدّ له في الواقع. وليس ذلك منه معنى جديد، ولا إدخال لما هو معلوم الخروج في العرف وبالعكس([4]).
2- ما أشار إليه السيد الخميني في مناقشة القائل بمجعولية الزوجية شرعاً ـ بنحو الأصالة أو بنحو آخر ـ من أن الزوجيّة من الأمور العقلائيّة ومن الاعتبارات التي يكون أساس الحياة الاجتماعية ونظامها متوقّفاً عليها، ولا تكون من المخترعات الشرعيّة. أجل إنّ الشرائع قد تصرّفت فيها نوع تصرّفات في حدودها، لا أنّها اخترعتها، بل اتّخاذ الزوج وتشكيل العائلة من مرتكزات بعض الحيوانات أيضاً»([5]).
ومن هذين النموذجين يتضح بأن التشخيص ـ في مثل هذه المواضيع ـ مهمة لا يتكفل الشرع بإيفائها فقط، بل هي مهمة مركّبة من لغة وشرع وعرف، وهذه عملية أخرى تضاف إلى عمل المستنبط الذي يريد أن يستكشف حكم موضوع من المواضيع. وإلقاء تحديد الموضوع إلى العرف ليس بسديد؛ لأنَّ هذا السنخ من المواضيع يتطلب عناية وتأمل تتبعي لتحديده.
القسم الثالث: الموضوعات العرفية
وهي الموضوعات التي تؤخذ حدود مصاديقها من العرف محضاً، أما تعريف معاني موضوعاتها فهو أمر لغوي.
وقبل أن ننتقل إلى ذكر بعض التطبيقات الفقهية لهذا القسم علينا مقدمة التمييز بين العرف وبين السيرة العقلائية؛ حيث خلط البعض بينهما، وجعلوهما أمراً واحداً. إلا أن السيرة العقلائية هي ما يشترك فيه العقلاء مع اختلاف ظروفهم وشؤونهم وأديانهم، كما في اعتماد العقلاء على العمل بظواهر الكلام وأنَّ اليد إمارة الملكية في جميع المجتمعات.
أما العرف فهو: ما تعارف عليه مجموعة من الناس في مكان معين، وضمن شروط خاصة على تصرف وعمل معين. وهو ـ بطبيعة الحال ـ مختلف من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان، ومن مجتمع إلى مجتمع آخر، كبعض الظواهر التي قد تتصف في مجتمع من المجتمعات بالإيجابية، لكنها تتصف في مجتمع آخر عن بالسلبية، أو كتحديد النفقة سعةً وضيقاً الراجع لأعراف المناطق وعاداتها([6]).
وموارد الاعتماد على العرف في الفقه كثيرة جداً سنقتصر على ذكر بعضها:
1ـ قال العاملي في مدارك الأحكام:« ينبغي أن يكون المرجع في الدلو إلى العرف العام([7])، فإنه المحكّم فيما لم يثبت فيه وضع من الشارع…ولا عبرة بما جرت العادة باستعماله في تلك البئر إذا كان مخالفا له»([8]).
2ـ قال في جواهر الكلام: «والمرجع في الإناء والآنية والأواني إلى العرف، كما صرح به غير واحد…»([9]).
3ـ قال في جواهر الكلام أيضاً:المدار في صدق المرتين العرف كما في غيره من الألفاظ([10]).
4ـ وقال في مكان آخر: «وذلك لأن أمر الإطلاق والإضافة يرجع إلى العرف»([11])..
5ـ وقال أيضاً: «ويرجع في مسمى القروح والجروح إلى العرف»([12]).
6ـ وقال أيضاً: «والمرجع في معنى السكر وفي الفرق بينه وبين الإغماء ونحوه العرف»([13]).
7ـ وقال أيضاً: «والمرجع في القيام العرف»([14]).
8ـ وقال كذلك: « إنَّ المرجع فيهما [الجهر والإخفات] إلى العرف، كما هو الضابط في كل ما لم يرد به تحديد شرع»([15]).
والأمثلة المتقدمة لا تعني ـ عندما أوكلت مهمة تحديد هذه المواضيع إلى العرف ـ عدم مسؤولية الفقيه عن ذلك، بل إنَّ تحديد موضوع الحكم الشرعي تعريفاً (وهو أمر مختص بالفقيه) ومصداقاً أيضاً (وهو أمر قد يشترك العرف معه فيه أيضاً) هو من مهام الفقيه الأساسية؛ لوضوح اختلاف الأعراف من مكان إلى مكان آخر، ومن زمان إلى زمان آخر، وهو أمر لا يكون ناجعاً من غير اللجوء إلى متخصصين في شتى المجالات والحقول المعرفية، وهذا مؤشر آخر على نوهنا إليه في مقدمة البحث من تعقيد العملية الاجتهادية.
القسم الرابع: الموضوعات المستحدثة
وهي المواضيع التي استحدثت دون أي يكون لها أصل لغوي أو عرفي أو شرعي، كالأمور الحديثة الداخلة في المجال الطبي والاقتصادي والانترنيتي وعقود التأمين وحقوق التأليف…الخ من المسائل الأخرى.
وهناك اتجاهان في كيفية التعاطي مع هذه المواضيع، اتجاه ذهب إلى أنَّ الشارع المقدس بيّن أحكام مثل هذه المواضيع ـ بغض النظر عن وصول هذا البيان وعدمه ـ وبالتالي تكون مصاديق لمواضيع شرعية وصلت إلينا (مخترعة، مركبة، عرفية)، كما هو الحال في باب العقود المستحدثة.
واتجاه آخر مال إلى إدراج هذه المواضيع ضمن عناوين شرعية عامة يمكن أن تعدّ أصولاً لها. ولا ضرورة إلى إرجاعها كمصاديق لتلك المواضيع القديمة، فالمواضيع المستحدثة تقتضي أحكاماً مستحدثة أيضاً. ولا نعني باستحداثية الأحكام أنها وراء الكتاب والسنة، بل هي مستقاة من أصول عامة من داخل الكتاب والسنة.
ولعل من مؤيدات هذا الاتجاه الأخير ما روي عن مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَيْمُونٍ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنِ الْمُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ أنه قال: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ـ ع ـ مَا مِنْ أَمْرٍ يَخْتَلِفُ فِيهِ اثْنَانِ إِلَّا وَلَهُ أَصْلٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَكِنْ لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُ الرِّجَال([16]).
لكن يبقى السؤال الأساسي الذي شغل أذهان البعض من المحققين هو:
ما هي المراحل التي يجب على الفقيه طيها لاستكشاف أحكام هذه الموضوعات المستحدثة؟
وفي مقام الإجابة على هذا التساؤل نشير إلى وجود عدة مراحل لابد أن يمرَّ الفقيه فيها لاستنباط أحكام هذه المواضيع، نمرّ عليها إجمالاً:
المرحلة الأولى: تحديد الموضوع وتشخيصه بدقة عالية.
المرحلة الثانية: محاولة عرض هذا الموضوع على موضوعات الأحكام الشرعية (بأقسامها الثلاثة: المخترعة، المركبة، العرفية)؛ لرؤية ما يشابهه، وبالتالي معرفة كيفية تعامل الشارع مع هذا اللون من الموضوعات، فتتشكل رؤية تعبّر عن مذاق الشارع المقدس في كيفية التعاطي مع مثل هذه الأحكام، وهو ما يعبّر عنه بنظرية الأشباه والنظائر في عرف الدراسات الأصولية([17]).
المرحلة الثالثة: بعد الانتهاء من المرحلة الثانية (التعرّف على مذاق الشريعة العام) يبحث الفقيه حينئذ عن أدلة خاصة تقترب من دائرة هذا الموضوع([18]).
المرحلة الرابعة: بعد خلو يد الفقيه من أدلة خاصة ترتبط بموضوعه، يتحول للبحث عن أدلة شرعية عامة لإدراج موضوعه تحتها([19]).
المرحلة الخامسة والأخيرة: وبعد أن يطوي الفقيه المراحل الأربع المتقدمة دون أن يجد ما يمكن الركون إليه فيها ،يتحوّل إلى المرحلة الأخيرة وهي مرحلة الأصول العملية.
نتائج عامة
النتيجة الأولى: إنَّ تشخيص الموضوعات ـ بأقسامها الأربعة ـ مهمة تقع على عاتق الفقيه بشكل وبآخر، إما بنحو كامل كما في الموضوعات المخترعة والمستحدثة، وإما بنحو جزئي كما في الموضوعات المركّبة ـ حيث يشترك العرف والسيرة معه في تشخيصها ـ والموضوعات العرفية ـ التي تتوقف على التحديد اللغوي ومن ثمَّ العرفي ـ.
على أن التشخيص الفقهي غير التطبيق العائد للمكلف؛ فالأول مهمة الفقيه حصراً ـ على التفصيل الذي أشرنا إليه في الأسطر السابقةـ ليحدد من خلاله الموضوع، وعند التحديد تتحول المهمة لرؤية صلاحية انطباق هذا الموضوع المشخَّص فقهاً على المورد الخارجي، وهو شأن المكلف والفقيه بما هو كذلك.
النتيجة الثانية: حيث أن الموضوعات متعددة كما أسلفنا، وتشخيصها دور الفقيه المستنبط للحكم الشرعي فكما يجب عليه الاجتهاد في تحديد بعضها، يجوز له الرجوع إلى أهل الخبرة والاختصاص في بعضها الآخر، وسنذكر التنظير المناسب لهذه المسألة مع ذكر الاتجاهات المانعة والمسوّغة في البحث الخامس القادم إنشاء الله. وبهذا يتم الكلام في البحث الثالث من هذه المفردة (الموضوع).
([1]) وفي سياق هذا القسم استنكر الشارع المقدس مجموعةً من السير العقلائية التي كانت سائدة في تلك العصور، الاستنكار الذي بدا واضحاً لمن راجع سيّر الرسول وآله الطاهرين (عليه وعليهم السلام)، فقد أوصى الرسول الأكرم (ص) معاذ بن جبل عند بعثته إياه إلى اليمن بأن يميت أمر الجاهلية إلا ما سنه الإسلام، وأن يظهر أمر الإسلام كله صغيره وكبيره. تحف العقول، ابن شعبة الحرّاني: ص25.
([2]) شرائع الإسلام في معرفة الحلال والحرام، المحقق نجم الدين جعفر بن الحسن الحلي، تحقيق: عبد الحسين محمد علي بقال، مؤسسة اسماعيليان ط2، 1408هـ ق: ج2، ص169.
([3]) من الواضح بأنَّ القول الأول يرجع إلى القسم الثالث الذي ستأتي حقيقته لاحقاً.
([4]) أنظر: جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، مصدر سابق: ج28، ص43.
([5]) أنظر: أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية، السيد الخميني، مؤسسة نشر تراث الإمام الخميني: ج2، ص208.
([6]) ينوء بحثنا الفقهي والأصولي بأنواع من الخلط في مباحث كثيرة من هذا القبيل، كالخلط بين السيرة العقلائية والأحكام العقلية، وبين أحكام العقل النظري وأحكام العقل العملي…الخ
([7]) ينوّع العرف إلى عرف خاص وعرف عام، والعرف الخاص (الشخصي) ليس مداراً للأحكام الشرعي، ولمزيد من المراجعة أنظر: الأصول العامة في الفقه المقارن، السيد محمد تقي الحكيم، ص417. مفتاح الوصول إلى علم الأصول، الشيخ أحمد البهادلي، ج2، ص187.
([8]) مدارك الأحكام في شرح عبادات شرائع الإسلام، محمد بن علي الموسوي السند العاملي، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، 1411هـ ق، ط1، بيروت ـ لبنان: ج1ص96.
([9]) جواهر الكلام، مصدر سابق: ج6، ص334.
فالعرف مختلف في تحديد معنى الآنية اللغوي، وبالتالي يختلف حكمها وفقاً لهذا الاختلاف، فما صدق عليه آنية يأخذ حكم الآنية، وما لا يصدق عليه كذلك لا يأخذ حكمها. وبتبدّل الموضوع لا يتبدّل حكم الله الواقعي في مثل هذه المواضيع، بل هناك حكم واقعي لكل موضوع بظروفه الزمكانية كما ستأتي الإشارة إليه لاحقاً.
([10]) المصدر نفسه: ج6، ص190.
([11]) المصدر نفسه ج1، ص80.
([12]) ج6، ص107.
([13]) ج6، ص13.
([14]) ج9، ص245.
([15]) المصدر السابق: ص380.
وهناك أمثلة عديدة لهذا القسم تركنا الحديث عنها خوف الإطالة، نظير البيض الذي قد يكون موزوناً في مكان ومكيلاً في مكان آخر، وهو أمر يؤثر بطبيعة الحال على مجال البحث الربوي. أو مؤونة السنة الخمسية التي تختلف من مكان إلى آخر سعة وضيقاً. أو النفقة في باب النكاح، وإحياء الأراضي الموات. وهكذا العديد من الموارد الأخرى التي يمكن العودة إليها في مظانها.
([16]) فروع الكافي، ج1، ص60.
([17]) سنتعرض لاحقاً إلى الفروق المتصوّرة بين حكم مسألة بما هي هي من غير استكشافها من خلال مسألة أخرى، وبين حكم المسألة التي تم استكشافها من خلال رؤية مذاق الشريعة العام.
([18]) مثلاً: نلاحظ أن الروايات التي توجب الزكاة في الأرز إما أن تكون معرضاً عنها، وإما أن تحمل على التقية، وسيأتي تفصيل الحديث في هذه الروايات في الفصل الثاني ليُشار من خلال ذلك إلى كيفية التعامل مع هذا اللون من الروايات بنحو يسدي في تحقيق مصداق لهذه المرحلة الثالثة.
([19]) مثلاً: إذا كان موضوعه مرتبط بالنظام الاقتصادي والمالي لابد له من تفحص الرؤية الإسلامية العامة في موضوع الملكية الفردية ـ مثلاً ـ فهل إن الإسلام بنى أحكامه على إثباتها؟ فينظر حينئذ في موضوعه؛ لرؤية ما إذا كان يتنافى مع هذا البناء فيحرّمه، أم أنه يتناغم معه فيجوّزه؟