تأثير الزمان والمكان في مواقف الأئمة تجاه حكومات عصرهم (2)
أسلفنا الحديث فيما تقدم عن مهمتين ينبغي على الفقيه ممارستهما للوصول إلى الموقف السليم في هذا التطبيق، وقد تلخصت المهمة الأولى بمحاولة استكشاف الموقف المعصوم بدراسة شاملة تحيط بكل الجوانب والظروف المؤدية إليه. وبغية إنجاز هذه المهمة علينا القيام باستقصاء عام للظروف المؤدية لهذه المواقف، وذلك باستعراض ظروف بعض هذه المواقف والقيام بمهمة تحليلها.
وقبل أن نبدأ بذلك لا بأس أن نشير إلى الركائز والتساؤلات التي تدعونا إلى خوض غمار هذا البحث، وربما يكون أهمها:
(1) لماذا لم ينجح التدبير النبوي في إيصال علي (ع) إلى الخلافة كما خططت الرسالة له؟ هذا التدبير الذي سعى النبي (ص) فيه جاهداً من يوم الدار وواقعته المعروفة إلى التنصيص على خلافته (ع)، وبذلك يؤتي المشروع الإلهي أُكله؟
(2) ما هو سر اختلاف مواقف الأئمة وتنوّعها، وهي قضية فقهية وعقائدية أسلفنا الحديث عن مدياتها سابقاً.
(3) ما هو نوع التكليف الملقى على عواتقنا في زمن الغيبة، وما هي الطريقة السليمة لاستكشافه، وبذلك نتجنب الخطأ في تطبيق المواقف على غير موردها.
إنَّ ما تعانيه دراساتنا المذهبية المعاصرة (التحليلية ـ إن وجدت ـ والسردية) هو غياب عنصر الرؤية السليمة في الاستعراض والاستكشاف، فدون بدء الباحث برؤية وأفق مدلل لن يكتب لنتائجه النجاح، ولن يوفق أيضاً في اكتشاف الحقيقة، بل ولا اكتشاف بعض جوانبها أيضاً.
تمهيد ضروري
لقد تعرض المشروع الإلهي إلى جرح عميق في مفصل خطير من مفاصله، وكان قد قدّر لعلي (ع) أن يعمل جاهداً على معالجة هذا الجرح ومداراته لكي لا يتسلل إلى بقية الأعضاء فينقضّ عليها جميعاً، وبذلك يحافظ ـ وحافظ ـ على جسم الأمة الإسلامية وللمشروع الإلهي النبوي في الاستمرار. وهكذا توالت النكبات والصدمات مروراً بالخلفاء الذين أفرزتهم السقيفة الأولى والثانية حتى وصول الحكم إلى علي (ع)، وما أن أستلم الحكم حتى ظهرت بوادر الفتنة والنفاق ورجالتها تدعوه إلى المصالحة والإبقاء على الوضع كما هو، إلا أن المشروع الإلهي العلوي لم يقبل ولن يقبل بمثل هذه المصالحات، بل عليه أن يطبق شروطه الإلهية دون هوادة.
وهكذا مع بوادر الفتن ورجالتها، وهكذا مع النفاق المبطّن والظاهر، استشرى المشروع الأموي في جسم الأمة الإسلامية، وحصلت السيطرة الكاملة عليه، وبعد أن لم ينفع صلح الإمام الحسن (ع) في إعطاء مفعوله ـ حيث قام الطرف الآخر بنقضه والسحق عليه، وهي شيمة رجالات هذا المشروع ـ لم يجد الحسين (ع) بداً من المواجهة والكفاح المسلّح؛ إذ مثل هذه الظروف لن ينجع فيها إلا الدم، والذي يعد الوسيلة الشرعية الأولى في مثل هذه الحالات.
ما بعد الخلافة النبوية، قراءة في ظروف المواقف المعصومة
وفي هذا الضوء ننتقل لتقديم قراءة مشفوعة بالتحليل المدروس، قدّمها أحد المنتمين لمدرسة الصحابة والمترعرع في أجوائهم، نقول هذا كي لا تتهم هذه القراءة بعدم الحياد والموضوعية؛ إذ أنها رؤية من الداخل، وهي قراءة قدّمها الشيخ عبد الله العلايلي في كتابه المعروف (الإمام الحسين)([1]). والقراءة تتضمن استعراض كامل لمرحلة ما بعد رحلة الرسول الأكرم (ص)، ومحاولة تحليلها بشكل علمي دقيق، وفي ضوء ذلك تتضح طبيعة الظروف التي آلت إلى تلك المواقف المعصومة المتغايرة، وبالتالي محاولة إيجاد تفسير سليم لها.
بدايةً لم يكن هناك شك عند العلايلي ـ مؤلف هذا الكتاب ـ في أن أفكاره التي سيعلّق بها على حكومة الخلفاء ستلاقي استنكاراً من قوم ومعتبة من قوم آخرين، إلا أنه مع هذا توقّع أن تلاقي عند بعض آخر قبولاً وارتياحاً ممن يميلون للبحث العلمي المنصف والجاد.
لعل الذي حدا بالمؤلف إلى دراسة هذه المرحلة هو اعتقاده بأنها النواة الأصلية للتأريخ الإسلامي بشكل عام، ومع هذا الافتراض الهام إلا أن الغموض جاثم عليها، ومن هنا فلا يمكن لنا أن نفهم روح الاتجاهات المختلفة التي دفعت المجتمع الإسلامي الواسع وسيرته ـ والذي هو عبارة عن كتلة ضخمة من العصور والأجيال ـ إلا إذا توافرنا جيداً على دراستها، وحللنا حوادثها وشخصّنا عوامل الاضطراب فيها. ولعل كلمة الشهرستاني في الملل والنحل القائلة بأن كل التبلبلات التي مرّت بالتأريخ الإسلامي سواء في العقيدة أو السياسة يمكننا أن نجد لها مرتجعاً ومرداً في حوادث صدر التأريخ، هذه الكلمة لا تجانب الصواب.
وبعد أثنى المؤلف على مقولة الشهرستاني واعتبرها نيرة وموفقة عطف الكلام على ما تعانيه دراساتنا الإسلامية من قصور في هذا الجانب، وبالتالي النتائج غير السليمة التي لم تأت من تأسيس صحيح. من هنا كان لزاماً علينا قراءة تلك المرحلة بطريق علمي مدروس:
«لحق الرسول الأكرم (ص) بالرفيق الأعلى، وقد ترك المسلمين تحت سيطرة الاعتقاد الديني الشديد، لكن وفاته جاءت فجائية بعض الشيء، وقد تنوّعت أحوال الأصحاب الذين حوليه بين متأثر وبين من امتلك رباطة جأش عالية.
في تلك المرحلة وفي خضم الأوضاع والملابسات التي مرّت بها وجد عمر بن الخطاب رجل المرحلة الذي يمكن أن يمرر المشروع من خلاله، ودائماً تكون المواقف الفذّة في الأحداث الكبيرة سبيلاً وحيداً لتقديم صاحبها وإضفاء أصفق الستر على الشخصيات الكبيرة الأخرى، وليس ضرورياً في هذا الزعيم أن يكون أفضل جميع رجالات تلك الفترة؛ إذ إن طبيعة هؤلاء الذين كشفت وتكشف عنهم الظروف، وتخلقهم الانقلابات وتوجدهم المناسبات أنهم يكونون الأقدر على إدارة الظرف ذاته، فإذا تحوّل بهم الظرف إلى مناسبة أخرى وقفوا منها واجمين، وتنحوا حيث لا يمكنهم البقاء والثبات، ومن هنا قال أبو بكر بعد تبدّل ذلك الظرف وتحوّله: أقيلوني فلست بأفضلكم.
وبغض النظر عن تفسير ما يسمى بالنجاح الذي رآه العلايلي لحكومة أبي بكر، وبغض النظر عن التفسير الطبيعي القسري الذي أبداه، نصّ أبو بكر على عمر بن الخطاب من بعده خليفةً للمسلمين، مفسرّاً ذلك ـ أي العلايلي ـ كي لا يتعرّض المسلمون لخلاف من نوع الخلاف الذي تعرضوا له بعد وفاة النبي (ص)، والظرف دقيق جداً لا يتسع لأي اختلاف؛ وذلك لأنه مفعم بالفتوح الكبيرة الواسعة الأطراف، والمسلمون متوزعون في بقاع عديدة وجهات مختلفة، فكان أي اختلاف كافياً للقضاء على هذه القوى المتنائية.
لقد انتهى التحليل الذي قدّمه العلايلي لبدايات الخلافة العمرية ـ إن صح لنا مثل هذا التعبير ـ إلى أن نصّ أبي بكر على خلافة عمر بن الخطاب بعده يعني تقديم شخصه ـ أبو بكر ـ ليحكم الناس مرة ثانية؛ وعلى ذلك الشخص الذي يقدّمه أن يتقيّد بمناهجه ويسير على قدمه ويتحاشى من أن يبتعد أو يتجاوز، رغم تغيّر الأحوال أو اقتضاءات الظروف، وهذا بعض من معايب حكم البيوت، وحكم التخليف الاصطناعي كما يرى العلايلي.
لقد وصف العلايلي حكومة أبي بكر ـ بعد أن أكد احتوائها على السداد والرشد والبعد عن الذاتية والتمسك بالسيرة النبوية ـ بأنها ساهمت في إيجاد سابقة خطيرة تبرر كل مزاحمة حتى لصاحب الحق بلا مدافع، ولذلك لم يستبعد الظن بأن تكون سبباً في تجسيم الأطماع عند الرجالات كافة، مهما تناهت درجات اعتبارهم. وهذا ما اتخذه معاوية حجة لتبرير منازعته لعلي بن أبي طالب (ع)، رغم إقراره بأنه صاحب الحق وولي الشأن، وقد كشف عن هذه الحقيقة الكتاب الذي كتبه معاوية إلى محمد بن أبي بكر بعد ما ذكّره الأخير بفضل علي بن أبي طالب (ع)، وقديم سوابقه وقرابته إلى رسول الله (ص)، ومواساته إياه في كل هول وخوف…([2]).
وما أن شارفت الخلافة العمريّة على الانتهاء بعد تعرّضه لطعنة من أبي لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة مارس هذا الخليفة سياسة التنصيب التي مارسها الخليفة السابق معه، إلا أنه تنصيب بلون آخر أكثر تعقيداً وأشد حوادثاً، ومن هنا رأى العلايلي بأن هذا الأمر ـ أي عدم التنصيص على أحد بالخصوص وجعله سبيل اختيار الحاكم في عدد مخصوص ـ أوجد حزبية وبيلة، وهيأ لها أن تعمل أسوء أعمالها، ولم تقف عند حدود النجاح في الانتخاب فحسب، بل استقرت على وجه دائم لتقضي على الخصوم والأحزاب المناوئة، وهو ما يفسر مقالة أبي سفيان زعيم العصبة الأموية حين تولي عثمان: يا بني أمية تلقفوها تلقّف الكرة، فو الذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم، ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة([3]).
إنَّ رجاء أبي سفيان هذا يشعر بوجود الحزب الأموي منذ أمد بعيد، وكان لهذا الحزب مشاريع كيدية عديدة، وإلا فما هو سبب رجاءها لهم وليس لهم سابقة في الإسلام ولا ممن لديهم أيادي معروفة سوى المظاهرة ضد الله ورسوله. ومن هذا يستنتج العلايلي أن قتل عمر لم يكن بفكرة فارسية، بل هي فكرة أموية؛ فإن أبا لؤلوة كان غلاماً للمغيرة بن شعبة، هذا الأخير الذي كان من أشد الناس إخلاصاً للبيت الأموي، ومن أكثرهم تعلّقاً به ونفاقاً على غيره. وقد تجشّم عناء محاولة إدخاله إلى المدينة رغم منع عمر بن الخطاب ذلك، وإلا فبماذا نفسر هذه المصادفة في أن يكون قاتل عمر غلام المغيرة الذي هو أموي الرأي والهوى؟! ويبقى مثل هذا الاستنتاج بحاجة إلى مجموعة من الشواهد والتدليلات لإثبات صحته.
أما الأحزاب (بمعنى مجموعة من التكتلات العصبية والقبلية) التي يمكن استكشافها في ذلك الوقت والتي كانت تعمل متنازعة فيما بينها فهي عبارة عن:
(1) حزب عثمان، أو الحزب الأموي: وهو يضم جماعة الأمويين ومن عندهم هوى أموي، وهذا الحزب كان مبغوضاً من أهل المدينة أشد البغض؛ لأن من رأيهم ـ كما يذكر المستشرق فان فلوتن ـ أن وصول بني أمية إلى الحكم معناه انتصار أعدائهم القدامى من مشركي مكة.
(2) حزب طلحة والزبير: وهذا حزب يقوم على عصبية شخصية بسبب ما مُنيا به من فشل في الانتخاب، وكان ينضوي إليه بعض من الناقمين على سياسية عثمان، ومن أكبر شخصيات هذا الحزب عائشة زوج الرسول (ص).
(3) حزب أبناء عمر بن الخطاب: هذا الحزب لا يحدثنا التاريخ عنه كثيراً، ولا يسجل له ظهوراً أبداً، ولكن نرجح وجوده؛ فإن موقف عمر من أهل بيته لم يكن مرضياً، ووجد في الناس من يدعو لآل الخطاب، من أكبر الشخصيات المنتسبة إليه أبو موسى الأشعري الذي رأينا من خروجه على صلاحية الحكم إلى إسقاط الإمام القائم ومعاوية، وترشيح عبد الله بن عمر للخلافة التي لم يرها له أبوه، هذا الاقتراح الذي ارتآه ولم يكن في خاطر أحد أبداً ولا في خاطر عمرو بن العاص حتى يقال أنها خدعة منه يُعذر عليها أبو موسى الأشعري لا يعلل هذا الاقتراح إلا بالتواطؤ.
(4) الحزب الأموي المنشق: كان يعمل ضد الخليفة، ويقوم بدور الجاسوسية عليه لحساب بعض الأحزاب المذكورة، وسترى في القصة التي سنذكرها لاحقاً كيف استخدم طلحة بعض أشخاصه في شأن من هذه الشؤون.
(5) حزب علي (ع) أو الحزب المحافظ: وهو يضم كبار الصحابة وأرباب السابقات الجليلة في الإسلام، وربما امتد أثره فشمل المدينة وطغى على كل الأحزاب من حيث النفوذ، بيد أنه لم يكن مختالاً يعمل في الخفاء، بل يجتهد بتقويم خطى الخليفة وتعديلها ويحسابه حساباً على وجه النص خوفاً من استعجال الحوادث عليه. وكان يضم أمثال أبي ذر وأبي أيوب الأنصاري إلى كثيرين على شاكلتهما. ومن المهم أن نثبت أن هذا الحزب كان يجتمع عليه كل الأحزاب المذكورة، فإن هذه الملاحظة لها أثرها الخطير في فهم نكوص طلحة والزبير وعائشة وخروجهم عليه…
* * *
اختار الخليفة الثاني الشورى السداسية وفقاً لهذه التكتلات الانتمائية التي كانت في المدينة، والذي ينبغي أن نفهمه جيداً هو أن حصر الترشيح في عدد جعل لكل مرشح حزباً يناصره بضرورة حصر دائرة الانتخاب، وزاد في حرج الانتخاب أن ينص على الحَكم الانتخابي: عبد الرحمن بن عوف، مما يسهل سبيل الظفر لحزب بعينه، إذا استطاع أن يستميل الحكم، ولقد كان كذلك بالفعل. وهنا قوي شأن الأحزاب، ونرى أن الذي أوجدها هو التعيين المذكور، وقد يهون أمرها لو لم يتجاوز أثرها الانتخاب وما إليه، ولكن الذي أضرم النار أن حزب عثمان صارت له دالة عليه حتى استغله استغلالاً منقطع النظير رغم أنه يجب أن يكون موضعه فوق كل الأحزاب، بيد أنه أبدى حزبية وزاد في المعالنة بها وازداد المنتمون إلى هذا الحزب اضطهاداً لخصومهم، مما أثار الحفائظ وجعل الآخرين ينشطون لدفع هذا العدوان والدعوة ضد عثمان باعتباره حامي الحزب والمنافح عنه والمدافع دون جماعته»([4]).
إذن لم يكن اختيار الخليفة الثاني لهذه الشورى السداسية جزافياً، بل كان جراء وعي مسبّق وكانت النتيجة معلومة سلفاً، حيث نظّمت هذه الشورى بنحو لا تؤدي إلا إلى اختيار عثمان؛ إذ إنَّ كثيراً من الصحابة والتابعين كانوا يبغضون علياً ويسبونه([5])، ولهم مواقف عدائية تجاهه، فسعد بن أبي وقاص كان في نفسه شيء من علي بن أبي طالب (ع) ـ كما يعبّر أبن أبي الحديد ـ لأن أمه حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس، ولعلي (ع) في قتل صناديدهم وتقلد دماءهم شيء كثير، وكان طلحة ميالاً لعثمان لصلاة بينهما على ما ذكره بعض رواة الأثر. وأما عبد الرحمن بن عوف فهو صهر لعثمان؛ إذ إن زوجته أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط هي أخت عثمان من أمه.
ولأجل الحصول على عرض وتحليل دقيق لتلك الفترة ننتقل لعرض نصيّن لأمير المؤمنين علي (ع) في نهج البلاغة كشف فيهما الإمام عن مخاضات تلك الفترة وعن أسبابها:
الخطبة الشقشقية وعرضها التحليلي لظروف المواقف
ويقع الكلام في هذه الخطبة في مقامين:
1ـ سند الخطبة.
2ـ متن الخطبة.
المقام الأول: سند الخطبة
ربما يحاول البعض التشكيك في خطب نهج البلاغة ـ وخصوصاً في هذه الخطبة ـ ولعل ذلك واضح العلة؛ إذ إن خطب الإمام هي أنصع وأهم وأحكم النصوص التي بيّنت تأريخ الإسلام في تلك المرحلة، من هنا لم تجد المدرسة الأخرى ـ بجميع اتجاهاتها ـ طريقاً لمحو سند تلك الفترة إلا بإسقاط نهج البلاغة، وقد مارس الخليفة الأول والثاني مزيد عناية من أجل القضاء على الكتابة ومنع تدوين الحديث في تلك الفترة من الزمن بغية أن لا يدوّن ما حصل وما وقع فيها.
أما الكلام في سند هذه الخطبة فشهرتها ـ كما يعبّر المفيد ـ أشهر من أن يدلل عليها، «وقد روتها العامة والخاصة، وشرحوها، وضبطوا ألفاظها من دون غمز في متنها ولا طعن في أسانيدها. وتكاد أن تكون هذه الخطبة هي الباعث الأول والسبب الأكبر لمحاولة تزييف (نهج البلاغة) بإثارة الشبهات الواهية حوله، و توجيه الاتهامات الباطلة لجامعه حتى أدى ببعضهم الجهل أو التجاهل، وإن شئت فقل العناد والمكابرة إلى اتهامه بوضعها وما علموا أن هذه الخطبة بالخصوص مثبتة في مصنفات العلماء المشهورة، وخطوطهم المعروفة قبل أن تلد الرضي أمه»([6]). وقد قام السيد عبد الزهراء الخطيب بالإشارة إلى طوائف من هذه المصنفات سنعرض لبعضٍ منها، ناصحين من يريد التفصيل العودة إلى الكتاب نفسه.
فالمتقدمون على الرضي في رواية هذه الخطبة أبو جعفر محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن قبة الرّازي من متكلمي الشيعة وحذاقهم وكان قديماً من المعتزلة ومن تلامذة أبي القاسم البلخي شيخ المعتزلة المعروف، ثم انتقل إلى مذهب الإمامية و جرد قلمه في الرد على خصومهم…وكذا أبو القاسم عبد اللَّه بن محمد بن محمود البلخي الكعبي المتوفى سنة (317)، رأس طائفة من المعتزلة يقال لهم: الكعبيّة، وكان من متكلمي المعتزلة و له تصانيف تضمن بعضها كثيراً من الخطبة الشقشقية كما شهد لنا بذلك ابن أبي الحديد المعتزلي. وأبو أحمد الحسن بن عبد اللَّه العسكري، نقل عنه الصّدوق شرح الخطبة في (معاني الأخبار) قال: سألت الحسن بن عبد اللَّه بن سعيد العسكري عن تفسير هذا الخبر ففسره لي… الخ. والصّدوق في كتابيه (معاني الأخبار): و(علل الشرائع) في باب (العلّة التي من أجلها ترك أمير المؤمنين عليه السلام مجاهدة أهل الخلاف). بطريقين ينتهيان إلى ابن عباس.
وقد كانت هذه الخطبة مثبتة في (العقد الفريد) لابن عبد ربه المالكي المتوفى سنة (328) كما نقل ذلك المجلسي في المجلد الثامن من (البحار) ص 160 ط الكمباني، فقد عدد رواة الخطبة من الإمامية ونقل سندها المتصل بعبد اللَّه بن العباس عن (شرح نهج البلاغة) للقطب الراوندي ثم عدّد رواتها من غيرهم فقال: رواها ابن الجوزي في مناقبه و ابن عبد ربه في الجزء الرابع من (العقد الفريد) وأبو علي الجبائي في كتابه، و ابن الخشاب في درسه ـ على ما حكاه بعض الأصحاب ـ ، والحسن بن عبد اللَّه بن سعيد العسكري ـ على ما حكاه صاحب الطرائف». وخلو نسبته إلى ابن عبد ربه من تعبير الحكاية كاشف عن رؤيته المباشرة لها.
ويؤيد ما نقله المجلسي أن القطيفي في كتاب (الفرقة الناجية) نصّ على أنها في الجزء الرابع من العقد الفريد). ثم جاءت الأيدي الأمينة على ودائع العلم فحذفتها عند النسخ أو عند الطبع و كم لهم من أمثالها.
هؤلاء كلهم توفوا قبل صدور (نهج البلاغة)، ثم جاء من بعدهم فنقلوا الخطبة عن غير (النهج) ومن غير طريق الشريف الرضي، كما تدل عليه أسانيدهم المسلسلة، وطرقهم المختلفة، ورواياتهم المتفاوتة، ومنهم: أبو عبد اللَّه المفيد المتوفى سنة (412) أستاذ الشريف الرضي رواها في (الإرشاد) ، والقاضي عبد الجبار المعتزلي المتوفى سنة (415) ذكر في كتابه (المغني) تأويل بعض جمل الخطبة، والوزير أبو سعيد الآبي المتوفى عام (422) في كتابيه (نثر الدرر) و (نزهة الأديب)، والشريف المرتضى ذكر شيئاً منها في (الشافي وله كتاب مستقل في شرحها، والشيخ أبو علي محمد بن الحسن الطوسي المتوفى سنة (460) رواها في (الأمالي)، وقطب الدين الراوندي المتوفى (573) رواها في (شرح نهج البلاغة) من طريق الحافظين ابن مردويه و الطبراني ، و رواها أبو منصور الطبرسي في (الاحتجاج)»([7]).
وأخيراً نذكّر بما نقله ابن أبي الحديد من قصة تشير إلى صحة صدور هذه الخطبة، قال في شرح النهج:«حدثني شيخي أبو الخير مصدق بن شبيب الواسطي في سنة ثلاث و ستمائة قال: قرأت على الشيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد (المعروف بابن الخشاب) هذه الخطبة فلما انتهيت إلى هذا الموضع قال لي: لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له: و هل بقي في نفس ابن عمك أمر لم يبلغه في هذه الخطبة لتتأسف ألا يكون بلغ من كلامه ما أراد، و الله ما رجع عن الأولين و لا عن الآخرين، و لا بقي في نفسه أحد لم يذكره إلا رسول الله (ص).
قال مصدق ـ وكان ابن الخشاب صاحب دعابة وهزل ـ فقلت له: أ تقول إنها منحولة؟ فقال: لا والله، وإني لأعلم أنها كلامه كما أعلم أنك مصدق. قال: فقلت له إن كثيراً من الناس يقولون: إنها من كلام الرضي رحمه الله تعالى؟ فقال: أنى للرضي ولغير الرضي هذا النفس وهذا الأسلوب؟! قد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور، وما يقع مع هذا الكلام في خل ولا خمر. ثم قال: والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنّفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي»([8]).
المقام الثاني: متن الخطبة
وسنقسم الحديث في هذه الخطبة على أساس المراحل التي مرّت بها الخلافة في تلك الفترة؛ إذ بدأ الإمام باستعراض مرحلة الخليفة الأول والثاني والثالث، وختم الحديث عن أيامه في المقطع الرابع من هذه الخطبة، وسنؤجل الحديث عن هذا الأخير إلى ما بعد الانتهاء من تحليل هذه المراحل الثلاث.
(1) أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى- يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ وَلَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ، فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً، وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ، يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ، فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرْتُ وَفِي الْعَيْنِ قَذًى، وَفِي الْحَلْقِ شَجًا، أَرَى تُرَاثِي نَهْباً، حَتَّى مَضَى الْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ، فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلَانٍ بَعْدَهُ، ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الْأَعْشَى:
شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا وَيَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ
(2) فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ، إِذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا، فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا، ويَخْشُنُ مَسُّهَا وَيَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا وَالِاعْتِذَارُ مِنْهَا، فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ، إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَإِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ، فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللَّهِ بِخَبْطٍ وَشِمَاسٍ وَتَلَوُّنٍ وَاعْتِرَاضٍ، فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وَشِدَّةِ الْمِحْنَةِ.
(3) حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ، جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ. فَيَا لَلَّهِ وَلِلشُّورَى، مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ، حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ، لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا، فَصَغَى رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ، وَمَالَ الْآخَرُ لِصِهْرِهِ، مَعَ هَنٍ وَهَنٍ، إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ، بَيْنَ نَثِيلِهِ وَمُعْتَلَفِهِ، وَقَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اللَّهِ، خِضْمَةَ الْإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ، إِلَى أَنِ انْتَكَثَ فَتْلُهُ وَأَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ، وَكَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ، فَمَا رَاعَنِي إِلَّا وَالنَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ، إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ، وَشُقَّ عِطْفَايَ، مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ.
وربما تكون القراءة التي صدّرنا بها البحث مساهمة في فهم مقاطع هذه الخطبة الشريفة، ولا نجد مزيد حاجة إلى التوقف لشرح مقاطع تلك المرحلة وإفرازاتها؛ فقد وضحت معالم الرؤية التي يريد الإمام أن يكشف عنها ويجعلها أمام التأريخ، حيث أحتوت تلك الشورى السداسية على ميولات وأهواء قبلية كانت هي الحاكمة في تلك البرهة من الزمن، وشملت على مجموعة من التوافقات السياسية والمحاصصات القبلية التي لا يمكن تجاوزها، فحصل ما حصل ونُصّب من نُصّب.
وهذا ما كشف عنه الإمام علي (ع) في خطبة أخرى له قسّم فيها الذين روا الحديث عن رسول الله (ص) إلى أصناف أربعة، منهم رَجُلٌ مُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلْإِيمَانِ مُتَصَنِّعٌ بِالْإِسْلَامِ، لَا يَتَأَثَّمُ وَلَا يَتَحَرَّجُ، يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (ص) مُتَعَمِّداً، فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ كَاذِبٌ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ، وَلَمْ يُصَدِّقُوا قَوْلَهُ، وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ (ص)، رَآهُ وَسَمِعَ مِنْهُ وَلَقِفَ عَنْهُ، فَيَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَكَ اللَّهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَخْبَرَكَ، وَوَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ لَكَ ثُمَّ بَقُوا بَعْدَهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ السَّلَامُ فَتَقَرَّبُوا إِلَى أَئِمَّةِ الضَّلَالَةِ، وَالدُّعَاةِ إِلَى النَّارِ بِالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ، فَوَلَّوْهُمُ الْأَعْمَالَ، وَجَعَلُوهُمْ حُكَّاماً عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، فَأَكَلُوا بِهِمُ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا النَّاسُ مَعَ الْمُلُوكِ وَالدُّنْيَا، إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ فَهَذَا أَحَدُ الْأَرْبَعَة»([9]).
ويمكن أن يكون التحليل الذي أفاده بعض الباحثين مستفاد من هذه النصوص المباركة، وخلاصته إنَّ هناك الكثير من المنافقين حدثنا القرآن الكريم عن وجودهم في زمن الرسول الأعظم (ص) فأين ذهبوا هؤلاء بعد وفاته (ص)؟ إما أن نتفرض بأن الخلافة التي جاءت بعد الرسول (ص) هي أحكم وأدق منه (ص) فاستطاعت أن تجذبهم ليكونوا مؤمنين الأمر الذي لم يستطعه (ص)، وإما أن يكون هؤلاء قد تحولوا إلى الإيمان بمجرد وفاة الرسول(ص). وكلا الاحتمالين بعيد في نفسه، فيبقى احتمال أن يكون هؤلاء مبعدين عن السلطة وبمجرد أن توفي الرسول (ص) رجعوا إلى مواقعهم يبقى هذا الاحتمال راجحاً.
®®®
«لقد كانت المدينة تحتضن هذه الأحزاب جميعاً، وكانت مسممة الفكرة من ناحية الأمويين، فهي لذلك ساعدت على نشر معايب الحزب الأموي ورئيسه عثمان، وبما أن موسم الحج يجعل الأفئدة تهوي إلى المدينة من مختلف الأقطار انتقلت فكرة الحزبية إلى الحواضر والبوادي، وابتدأت المغالبة تأخذ شكلاً رهيباً وقوياً شرساً…»([10]).
لقد ساهم الحزب الأموي في إيصال رئيسه عثمان إلى السلطة من خلال الشورى السداسية البغيضة، والتي كانت ـ بتعبير ابن أبي الحديد ـ سبب كل فتنة وقعت وتقع إلى أن تنقضي الدنيا. ومن الطبيعي أن يطلبوا ما يريدوه منه في مثل هذه الحالة؛ إذ أنهم هم الذين أوصلوه إلى سدة الحكم، وعليه أن يعطي لكل أحد ما يبتغيه. وهكذا فعل حتى تأزمت الأمور، وتفاقمت النتائج، ولم ينجح الخليفة في احتواء الأزمة…
وبغية استكشاف بعض مظاهر هذه الحزبية علينا استعراض بداية قصة مقتل عثمان بن عفان كما نقلها المسعودي في مروج الذهب لنلاحظ ضرباً من تنازع الأحزاب فيها:
قال في مروج الذهب:
«وولي الكوفة بعد الوليد بن عقبة سعيد بن العاص، فلما دخل سعيد الكوفة واليَاَ أبى أن يصعد المنبر حتى يُغْسَل، وأمر بغَسْلِهِ، وقال: إن الوليد كان نجساً رجساً. فلما اتصلت أيام سعيد بالكوفة ظهرت منه أمور منكرة، فاستبد بالأموال، وقال في بعض الأيام أو كتب به عثمان: إنما هذا السواد قطين لقريش، فقال له الأشتر، وهو مالك بن الحارث النخعي: أتجعل ما أفاء اللّه علينا بظلال سيوفنا ومراكز رماحنا بستاناً لك ولقومك؟ ثم خرج إلى عثمان في سبعين راكباً من أهل الكوفة فذكروا سوء سيرة سعيد بن العاص، وسألوا عَزْلَه عنهم، فمكث الأشتر وأصحابه أياماً لا يخرج لهم من عثمان في سعيد شيء، وامتدت أيامهم بالمدينة، وقدم عَلَى عثمان أمراؤه من الأمصار منهم عبد اللهّ بن سعد بن أبي سَرْح من مصر ومعاوية بن أبي من الشام وعبد اللّه بن عامر من البصرة وسعيد بن العاص من الكوفة، فأقاموا بالمدينة أياماً لا يردهم إلى أمصارهم، وكراهة أن يرد سعيداً إلى الكوفة، وكره أن يعزله، حتى كتب إليه مَنْ بأمصارهم يَشكون كرة الخراج وتعطيل الثغور، فجمعهم عثمان وقال: ما ترون؟ فقال معاوية: أما أنا فراض بي جندي، وقال عبد اللّه بن عامر بن كريز: ليكفك امرؤ ما قبله أكْفِكَ ما قبلي، وقال عبد الله بن سعد بن أبي سرح: ليس بكثير عزل عامل للعامة وتولية غيره، وقال سعيد بن العاص: إنك إن فعلت هذا كان أهل الكوفة هم الذين يولون ويعزلون، وقد صاروا حلقاً في المسجد ليس لهم غير الأحاديث والخوض، فجهزهم في البعوث حتى يكون هَمُّ أحدهم أن يموت على ظهر دابته، قال: فسمع مقالته عمرو بن العاص فخرج إلى المسجد، فإذا طلحة والزبير جالسان في ناحية منه، فقالا له: تعالى إلينا، فصار إليهما، فقالا: ما وراءك؟ قال: الشر، ما ترك شيئاً من المنكر إلا أتى به وأمره به، وجاء الأشتر فقالا له: إن عاملكم الذي قمتم فيه خطباء قد رد عليكم وأمر بتجهيزكم في البعوث وبكذا وبكذا، فقال الأشتر: واللهّ لقد كنا نشكو سوء سيرته وما قمنا فيه خطباء، فكيف وقد قمنا؟! وايْمُ اللّه على ذلك لولا أني أنفدْتُ النفقة وأنضيت الظهر لسبقته إلى الكوفة حتى أمنعه دخولها، فقالا له: فعندنا حاجتك التي تقوم بك في سفرك قال: فأسلفاني إذاً مائة ألف درهم، قال: فأسلفه كل واحد منهما خمسين ألف درهم، فقسمها بين أصحابه، وخرج إلى الكوفة فسبق سعيداً، وصعد المنبر وسَيفه في عنقه ما وضعه بعد، ثم قال: أما بعد، فإن عاملكم الذي أنكرتم تعدية وسوء سيرته قد رد عليكم، وأمر بتجهيزكم في البعوث، فبايعوني على أن لا يدخلهاَ، فبايعه عشرة آلاف من أهل الكوفة وخرج راكباً متخفياً يريد المدينة أو مكة، فلقي سعيداً بواقصة فأخبره بالخبر، فانصرف إلى المدينة، وكتب الأشتر إلى عثمان: أنا والله ما منعنا عاملك الدخول لنفسد عليك عملك، ولكن لسوء سيرته فينا وشدة عذابه، فابعث إلى عملك مَنْ أحببت، فكتب إليهم: انظروا من كان عاملكم أيام عمر بن الخطاب فولوه، فنظروا فإذا هو أبو موسى الأشعري، فولَوْهُ»([11]).
«ومن هذه الحكاية نعرف مبلغ الخطر الذي أوجده النزاع الحزبي في استعجال الحوادث، فقد استحث طلحة والزبيرُ الأشتر ومداه بالمعونة المادية؛ ليقوم بغرضٍ من شأنه التهييج على إجراءات الخلافة، ورأينا كيف كان عمرو بن العاص يقوم بمهمة التجسس، ورأينا كيف تلقاه طلحة والزبير كأنما كانا موفديه بمهمة تسقط الأخبار واستراقها.
هذه الأحزاب كلها كانت تعمل ضد الخليفة بالذات، بينما كان حزب علي (ع) يقوم بالنصح والإرشاد والتوسط أحياناً لحل المشاكل الداهمة أو المفاجئة كما قررت ذلك لنا كتب التأريخ، فلم تكن مهمة حزب علي (ع) ـ والكلام للعلايلي ـ سوى المحافظة على ترسّم النهج النبوي فقط، دون التهجم على شخص الخليفة الذي يحترمونه باحترام الخلافة التي هي نيابة عن الرسول الأعظم (ص). هذا هو علي حقاً لا يعرف فؤاده الكبير معنى للختل والمغابتة وتدنيس الضمير. ولو كان ناقماً حقيقة على شخص عثمان لاستغل مثل هذه الظروف التي كانت تضمن له كل شيء…وفي نظري أنه لولا وجود علي في خلافة عثمان لانهارت من أول عاصفة، ولكن كان علي (ع) دعامتها وسندها المتين([12]).
لقد مارس الأمير علي (ع) دور الناصح لهذا الخليفة الذي صممت الجماهير المحتشدة على قتلة، فعليه أن يتكلم بلغة الناس، وعليه أن يستبدل حاشيته وبطانة مستشاريه، والذين كان أبرزهم مروان بن الحكم طريد رسول الله (ص). وبينما كان علي (ع) يمارس هذا الدور وقعت الواقعة وانتهى الأمر بقتل عثمان بن عفان.
([1]) ولد المفكر الشيخ عبد الله العلايلي في بيروت عام 1914م في عائلة متوسطة تشتغل في التجارة.وصف طفولته (بالكئيبة) وذلك لأنه ولد مع اندلاع الحرب العالمية الأولى وما رافقها من اضطرابات سياسية وعسكرية وحاجات معيشية وانهيار للإمبراطورية العثمانية التي كانت بلاده جزءاً منها.
أمضى العلايلي نشأته الأولى في كتاتيب حتى عام 1924م حيث انتقل إلى الأزهر في القاهرة، تابع دروسه إلى حين تخرجه سنة 1936م. انتسب في السنة التالية إلى كلية الحقوق بالقاهرة ولكنه اضطر إلى قطع دراسته والعودة إلى بيروت بسبب نشوب الحرب العالمية الثانية واشتداد الحملة الألمانية على مصر. تسلم بعد عودته مهمة التدريس في الجامع العمري الكبير ببيروت واستمر فيه ثلاث سنوات يخطب في المصلين داعياً إلى نبذ الطائفية والانتفاضة ضد الانتداب الفرنسي.
أصدر العلايلي حتى ذلك التاريخ أربع كتب عكست آراءه آنذاك، الأول (مقدمة لدرس لغة العرب) (القاهرة 1938)، (سورية الضحية) هاجم فيه معاهدة 1936م مع الفرنسيين، (فلسطين الدامية) و(إني أتهم) هاجم فيه التفكك الطائفي الذي استشرى في المجتمع اللبناني.
آمن العلايلي بدور المرأة في الحياة والمجتمع، كما كانت له ثقة بالعقل البشري وبقدرته وأكد على دور اللغة لما لها من علاقة وثيقة كأداة تعبير عن الفكر، وربط بين التطور الحضاري والتطور اللغوي. ووصف (الركود والأسوار) قائلاً إن الركود يعني موت والأسوار (توابيت الاعتياد التقليدي).
لم يكن العلايلي مجرد شارح أو ناقد أو معقب على ما يقرأ من نصوص وشواهد في اللغة فحسب، بل صاحب رسالة في الأدب واللغة والقومية عبر عنها بوضوح في جميع كتبه ومقالاته وأبحاثه.
من آثاره المطبوعة: (الإمام الحسين)، (من أيام النبوة، مشاهد وقصص). (أين الخطأ، تصحيح مفاهيم ونظرة تجديد)… توفي العلايلي في سنة 1996م.
([2]) سمو المعنى في سمو الذات أو أشعة من حياة الحسين (ع)، أو الإمام الحسين، عبد الله العلايلي، ص24ـ38.
([3]) المصدر السابق: ص30.
([4]) الإمام الحسين، مصدر سابق: ص33.
([5]) كما نصّ على ذلك أبن تيمية في منهاج السنة النبوية.
([6]) مصادر نهج البلاغة، السيد عبد الزهراء الخطيب: ج309.
([7]) أنظر في هذا الصدد: مصادر نهج البلاغة، السيد عبد الزهراء الخطيب: ج1، ص309ـ 315. بتصرف.
المثير أننا لو قايسنا هذا الخطبة بحديث الرفع الذي يوجد في سنده العديد من الإشكالات والتي بذل الأعلام قصارى جهودهم من أجل رفعها، لو قايسناها به لكان سندها أقوى منه، لكن الغفلة عن نهج البلاغة وعدم الاكتراث به أدى إلى وجود تلك الشبهات من غير وجود حلّ لها، من هنا أدعو جميع الباحثين والكتاب والمحققين من الخطباء إلى إثراء البحث في هذا الجانب، ومحاولة تأسيس مرجعية لنهج البلاغة في أبحاثهم وكلماتهم؛ فجميع خطب النهج تحتوي على سند في مصادراه الأصلية لكنها تحتاج إلى مراجعة وتتبع.
([8]) شرح نهج البلاغة، أبن أبي الحديد المعتزلي، مصدر سابق: ج1، ص69. بتصرف.
([9]) نهج البلاغة: ص353.
([10]) الإمام الحسين، مصدر سابق: ص35
([11]) مروج الذهب، المسعودي: ج1، ص307.
([12]) الإمام الحسين، مصدر سابق: ص37ـ