مفاتيح عملية الاستنباط الفقهي (4)
المفتاح الأول:
ثبات وتغيّر موضوع الحكم الشرعي (بلحاظ الزمان والمكان)
تمهيد
في البدء نتساءل عن تأثير الزمان والمكان في ثبات وتغيّر موضوعات الأحكام الشرعية، والذي نعنيه من الزمان والمكان هو التأريخ والجغرافيا، وليس المراد منهما الزمان والمكان الفلسفيان، فالحقبة التاريخية لها خصائصها من حيث العلاقات الدولية والعادات الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية وغيرها، وكذلك الجغرافيا فكل مكان له عاداته وحضارته وثقافته وغيرها.
فهل أن الزمان والمكان (الظروف الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية…الخ) لهما تأثير في العملية الاجتهادية أم ليس الأمر كذلك؟ لا شك بأن القواعد والآلات العلمية التي مارسها الفقهاء في عصر الشيخ الطوسي عليه الرحمة لا يمكن لفقهاء هذا العصر الاستفادة منها دون تطويرها وتغييرها واستبدالها في بعض الأحيان.
من هنا افترض السيد الشهيد الصدر ضرورة وجود منطقٍ ومنهجٍ لعملية الاستنباط الفقهي لابد من تفحص أصوله وقواعده في جميع تفاصيل هذه العملية.
فالسؤال الأساسي الذي ينبغي أن يُحرر البحث فيه هو التالي:
هل للزمان والمكان تأثير على عملية الاستنباط الفقهي، وبالتالي تأثيره على موضوعات الأحكام الشرعية، أم أن الزمان والمكان لا تأثير لهما أصلاً؟
ويقع بحثنا في هذا المفتاح في فصول:
الفصل الأول: المبادئ التصورية للمسألة وتحرير محل النزاع فيها.
ونعني من المبادئ التصورية مفردات وأصول هذا المفتاح الأساسية، والتي هي عبارة عن: (الثبات) (التغيّر) (الموضوعات) (الأحكام) (الزمان) (المكان).
الفصل الثاني: أدلة المثبتين للتغيّر (ولو بنحو الموجبة الجزئية).
ونعني بالحديث في هذا الفصل ما يمكن ذكره من أدلة لإثبات مقولة التغيّر في موضوعات الأحكام، ولو بنحو الموجبة الجزئية.
الفصل الثالث: تطبيقات البحث
نذكر في هذا الفصل بعض التطبيقات الهامة المرتبطة بهذا البحث، ولا نقتصر فيه على البحث النظري؛ ولأجله ذكرنا أن البحث ليس أصولياً صرفاً ولا فقهياً صرفاً، بل هو مشترك بين الأصولي والفقيه.
الفصل الرابع: أدلة النافين للتغيّر ( ولو بنحو الموجبة الجزئية).
نستعرض فيه كلمات النافين للتغيّر، ومن ثمّ الإيراد عليها.
الفصل الخامس: كلمات أعلام الفقهاء في هذه المسألة.
معرفة ما إذا كانت هذه المسألة موجودة في كلمات الأعلام السابقين، أم أنها من المسائل الحديثة؟
الفصل السادس: الآثار والنتائج المترتبة على البحث (تغيّر الموضوعات وثباتها).
تختلف الفائدة المرجوة من العلوم من فائدة نظرية بحتة ترتبط بنفس العلم، كأبحاث التوحيد مثلاً ( فلا يقال لمن تعلّم هذه الأبحاث ما الفائدة المرجوّة من علمك )، إلى فائدة عملية تدخل في صميم وضع الإنسان الفردي والاجتماعي، نظير الأبحاث الفقهية الابتلائية([1]). وفائدة بحثنا من النوع الثاني لا من النوع الأول.
الفصل الأول:
المبادئ التصورية وتحرير محل النزاع
ويقع البحث في هذا الفصل في عدة مفردات:
المفردة الأولى: الحكم
هناك استعمالات متعددة ـ في كلمات الأعلام ـ لهذه المفردة، يمكن أن يلحظها المتابع في أبحاث المنطق والنحو والكلام والفقه والأصول، وهي بنحو الاستقراء عبارة عن:
الاستعمال الأول: الاستعمال المنطقي.
وهو على أنحاء:
(1) أحد أجزاء القضية.
وهو بمعنى إسناد أمر إلى أمر آخر إيجاباً أو سلباً، وقد يعبّر عنه بإدراك وقوع النسبة، والحكم هنا هو أحد أجزاء القضية؛ حيث تتركب القضية ـ كما هو المشهور ـ من أجزاء أربعة هي: (الموضوع) (المحمول) (النسبة الحكمية، نسبة المحمول إلى الموضوع) ( الحكم) ([2]).
قال العلامة الطباطبائي في بيان أجزاء القضية عند المشهور:
«ثمَّ إنَّ القضية بما أنها تشتمل على إيجاب أو سلب مركّبة من أجزاء فوق الواحد، والمشهور: أن القضية الحملية الموجبة مؤلفة من الموضوع، والمحمول، والنسبة الحكمية ـ التي هي نسبة المحمول إلى الموضوع ـ، والحكم باتحاد الموضوع مع المحمول»([3]).
(2) التصديق كقسم من أقسام العلم الحصولي.
ينقسم العلم الحصولي إلى تصور وتصديق، والتصور هو صورة ذهنية حاصلة من معلوم واحد من غير إيجاب أو سلب. وهو إما مفرد وإما مركب، والمركب إما ناقص وإما تام([4]). أمّا التصديق فهو صورة ذهنية من علوم معها إيجاب أو سلب، فعندما ننظر إلى قضية زيد قائم من حيث أنها تريد حكاية نفس القضية دون لحاظ حكايتها عن شيء وعدم حكايتها فهي تصوّر، وإما إذا لحظانها بما أنها حاكية عن واقع ما فهي تصديق. فالتصديق في هذا الاستعمال أي فهم صدق قضية ما، ولا يخفى الفرق بينه وبين التصديق الكلامي والذي سيأتي الحديث عنه في الاستعمال الكلامي لاحقاً.
(3) التصديق بمعنى نفس القضية
يراد من الحكم في الإطلاق السابق التصديق الذي يقابل التصور، أما هنا فيراد منه نفس القضية، والتي هي من مصاديق التصور.
الاستعمال الثاني: الاستعمال الكلامي.
وهو التصديق الكلامي والذي يصطلح عليه في عرفنا بالإيمان، والذي يقع في قبال التصديق المنطقي، ويقع مترتباً عليه، فبعد التصديق والعلم بثبوت المحمول للموضوع يبقى للإنسان الاختيار في عقد القلب والإيمان بمثل هذه النتيجة أو لا، من هنا عبّروا عن المدرِك للعقد الأول بالعقل، والمدرِك للعقد الثاني بالقلب([5]).
الاستعمال الثالث: الاستعمالات الفقهية والأصولية.
مقدمةً لابد أن نميّز بين البحث الفقهي والبحث الأصولي وذلك بالتذكير بما طرحنا في أبحاثنا الأصولية، فقد بينا هناك بأن البحث إذا كان في مادة ما (كما لو كان البحث في مادة (باع) (حج) (صام)…وهكذا) فهو بحث فقهي. نعم قد يكون هذا البحث الفقهي قاعدة فقهية في بعض الأحيان، وقد يكون مسألة فقهية في أحيان أخرى، لكن هذا التمييز لا يؤثر في كون البحث الفقهي بحثاً في المادة.
أما إذا كان البحث في المادة لكن لا بشرط من حيث المادة الفقهية فهو بحث أصولي، أي في صلاحية هذه المادة الفقهية للاستخدام في مجالات المادة المتنوعة([6]). من قبيل البحث في حجية الظهور، فإنه البحث يقع في كونه حجة أو لا، بمعنى صلاحية هذه المسألة للدخول في جميع الأبواب الفقهية. كما أنَّ خبر الثقة مادة من المواد، ولكنها مادة إذا قيست إلى المواد الفقهية الأخرى تكون لا بشرط من حيث المادة الفقهية([7]).
الاستعمال الأول: الحكم الشرعي التكليفي.
ويراد منه الحكم الشرعي التكليفي فقط (الوجوب والحرمة والكراهة والاستحباب والإباحة).
الاستعمال الثاني: الأحكام الشرعية الأعم من التكليفية والوضعية.
ويراد منه مطلق الأحكام الشرعية، سواء أكانت تكليفية أم وضعية، وهو هنا أوسع من الإطلاق الأول.
الاستعمال الثالث: الحكم الواقعي والظاهري.
والحكم الواقعي هو ما لم يفرض الشك في موضوعه، والظاهري ما فُرض الشك في موضوعه.
الاستعمال الرابع: في قبال الحقّ.
هناك خلاف كبير في تحديد معنى الحكم والحق في هذا الإطلاق، وقد كُتبت رسائل متعددة في هذا المجال يمكن العودة إليها بشكل تفصيلي للوقوف على حقيقة البحث([8]).
الاستعمال الخامس: حكم القاضي في المخاصمات.
يطلق الحكم أيضاً ويراد منه حكم القاضي في المخاصمات، وهو غير الحكم في الاستعمال الأول والثاني([9]).
الاستعمال السادس: في قبال الفتوى.
والمراد منه ما هو أوسع من موارد الخصومة، كما في حكم الحاكم برؤية الهلال فلا دعوى ولا خصومة. فحكم الحاكم لا يختص بموارد النزاع بين المتخاصمين في الدعوة، بل هو أوسع من ذلك. وهو مختار صاحب الجواهر.
قال مشيراً إلى ذلك: «بقي الكلام في الفرق بينهما (الحكم والفتوى)، والظاهر أن المراد بالأولى (الفتوى) الإخبار عن الله تعالى بحكم شرعي متعلق بكلي، كالقول بنجاسة ملاقي البول أو الخمر، و أما قول هذا القدح نجس لذلك (للملاقاة) فهو ليس فتوى في الحقيقة (لأن تحديد الجزئيات النجسة لا يرتبط بالفتوى بل مرجعه إلى تشخيص موضوعها)، وإن كان ربما يتوسع بإطلاقها عليه، و أما الحكم فهو إنشاء إنفاذ من الحاكم لا منه تعالى لحكم شرعي أو وضعي أو موضوعهما في شيء مخصوص.
و لكن هل يشترط فيه مقارنته لفصل خصومة كما هو المتيقن من أدلته، لا أقل من الشك، و الأصل عدم ترتب الآثار على غيره، أو لا يشترط، لظهور قوله…ومن هنا لم يكن إشكال عندهم في تعلق الحكم بالهلال و الحدود التي لا مخاصمة فيها…»([10]).
أما المراد من الحكم من هذه الإطلاقات هو الأعم من هذه الإطلاقات جميعاً، فقولنا تغيّر موضوعات الأحكام الشرعية بتغيّر الزمان والمكان المراد من الحكم الأعم من التكليفي والوضعي، والأعم من الواقعي والظاهري، والأعم من الفتوى وحكم الحاكم. وسيتضح ذلك من خلال الأبحاث القادمة إنشاء الله تعالى.
([1]) وما يقال في الاستفسار عن الفائدة المرجوّة من بعض الأبحاث العقدية [كالبحث عن أن لواجب الوجود ماهية أم لا، وأنه متناهي أم لا ، وعن الإمامة وتفاصيلها) ناتج من الخلط في معنى الفائدة المتوقّعة من بعض العلوم، حيث يظنّ بأن الفائدة هي عملية فقط، مع أن هذا الأمر خلاف ما قدمناه؛ حيث أن الكثير من العلوم لا تحمل غاية وفائدة عملية تدخل في سدى ولحمة العمل الفردي اليومي، بل لا معنى للبحث عن الفائدة في مثل هذا النوع من العلوم، وإنما تكمن الفائدة في مثل هذه العلوم في أن العلم بها أفضل من الجهل بها.
([2]) لا يخفى عليك وقوع الخلاف في عدد أجزاء القضية، فهل هي أربعة، أم ثلاثة، أم اثنان، وتفصيل الحديث في هذا الموضوع شأن الدراسات المختصة.
([3]) نهاية الحكمة، تأليف: الأستاذ العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، بإشراف: الشيخ ميرزا عبد الله نوري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بـ قم المشرّفة، لم تذكر الطبعة، جمادي الأولى 1404هـ ق، الموافق لشهر بهمن 1362هـ ش: ص 251، الفصل الثامن من المرحلة الحادية عشر.
وللعودة إلى تفاصيل أكثر: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، حاشية السيد محمد حسين الطباطبائي: ج1، ص365. تعليقة على نهاية الحكمة، الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي: تعليقة رقم 39.
([4]) من هنا يتضح بأنَّ القضية من أقسام المركب التام الذي هو من أقسام التصور، فلا صحة لما ذكره العلامة الطباطبائي من مرادفة التصديق والقضية في بداية الحكمة، لكن هذه المرادفة غير تامة، والصحيح هو التباين.
([5]) وقد جاء هذان النوعان من التصديق في الآيات والروايات، وعدم التفريق الواعي بينهما يوجب الخلط في كثير من المباحث.
([6]) فهو ليس بحث في الهيئات؛ لأنَّ البحث في الهيئات بحث منطقي [البحث في الإشكال الأول والثاني والثالث والرابع).
([7]) لم يتعرّض الأعلام إلى مسألة تقسيم الأبحاث الأصولية إلى مسألة وقاعدة، على الرغم من كونها من الأمور المهمة في كل بحث، فكما يقسّم الفقه إلى ذلك، كذلك في الأصول يمكن تقسيم الأبحاث فيه إلى قواعد أصولية ومسائل أصولية، والأمر كذلك في التفسير [تفسير القرآن) وعلم الكلام، حيث يوجد مسألة تفسيرية وقاعدة تفسيرية، ومسألة كلامية وقاعدة كلامية. وهذا من أهم أبحاث المنهج.
([8]) لمزيد من الاطلاع لاحظ: فقه العقود، السيد كاظم الحسيني الحائري، مجمع الفكر الإسلامي، ط1، 1423هـ ق: ج1، ص133. الحكم والحق، رسالة ماجستير للسيد عدنان البكاء بيّن فيها جميع أقسام الحكم والحقوق الشرعية والقانونية والجزائية.
([9]) أنظر: القواعد والفوائد، محمد بن مكي العاملي [الشهيد الأول)، تصحيح وتحقيق: السيد عبد الهادي الحكيم، كتاب فروشي أميد، ط1، إيران ـ قم: ج1، ص320، القاعدة 114.
([10]) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، محمد حسن بن باقر النجفي [صاحب الجواهر)، تصحيح وتحقيق: الشيخ عباس القوﭼاني دار إحياء التراث العربي، ط7، بيروت ـ لبنان: ج40، ص100