(إن الله مع الذين إتقوا * والذين هم محسنون)
الحواري ميثم التمار
وهو احد الحواريون خريجوا مدرسة الرسول الأعظم وأمير المؤمنين صلوات الله عليهم أجمعين
ميثم التمار في سطور
ولد ميثم بن يحيى التمار بمدينة النهروان بالعراق، أصبح عبدا لامرأة من بني أسد، فاشتراه أمير المؤمنين (عليه السلام) وأعتقه، وكان قد أسلم قبل ذلك،
وقال له: ما اسمك؟
قال: سالم
قال (عليه السلام): أخبرني رسول الله (صلى الله عليه وآله) إن اسمك الذي سماك به أبواك في العجم ميثم
قال: صدق الله ورسوله وصدقت يا أمير المؤمنين، والله إنه لإسمي،
قال: فارجع إلى اسمك الذي سماك رسول الله (صلى الله عليه وآله) ودع سالما فرجع ميثم واكتنى بأبي سالم.
وكان ميثم يبيع التمر في محل له بالقرب من رحبة الكوفة لذا سمي ب ميثم التمار . وكان ميثم أحد الأشخاص الذين أوصى بهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام). لازم ميثم الإمام (عليه السلام) منذ ذلك اليوم ملازمة الظل صاحبه ويحذو خلفه حذو الفصيل أثر أمه، واكتسب من علومه ومعارفه ما لم يكتسبه إلا القلة من حواري الإمام (عليه السلام) على الرغم من قصر المدة حتى وصل إلى درجات عالية من السمو والكمال والفضيلة نظرا لما يتمتع به من الاستعداد الفطري، والنبوغ العقلي، وسعة الأفق، ونفاسة المعدن. كان الإمام (عليه السلام) يصطحب ميثم عندما يخرج في جوف الليل إلى الصحراء في الخلوة والتهجد والمناجاة، وقد اكتسب من هذه المصاحبة الكثير من العلوم والمعارف بالإضافة إلى ثقة الإمام (عليه السلام) بمواهبه وقابلياته وإخلاصه، حتى أطلعه على أسرار عظيمة من مكنون العلوم، والمعارف، كما أطلعه على علم الآجال، وعلم البلايا والمنايا، حتى أصبح صاحب سره ، وكان الإمام (عليه السلام) قد علم نخبة من أجلاء أصحابه وحواريه هذا العلم، منهم: عمار بن ياسر، وحبيب بن مظاهر الأسدي، ورشيد الهجري، وكميل بن زياد، وعمرو بن الحمق الخزاعي، ومحمد بن أبي بكر، وأويس القرني، وكان ميثم من هؤلاء الصفوة من المؤمنين الأخيار، وإن دل على شيء فإنما يدل على مكانة هذه الصفوة، ذلك لأن الإمام (عليه السلام) ما كان يصطحب أحدا في ساعات خلوته بربه، للمناجاة والتهجد والعبادة إلا القلة الذين امتحن الله قلوبهم ممن كانوا يتحملون فعلا صحبته والتعرف على أسراره، وهم الذين كانوا يتمتعون بإيمان راسخ ويقين صادق وروح عالية.
ميثم يرى الخضر (عليه السلام)
إن الله تبارك وتعالى منح الخضر (عليه السلام) الحياة، ودوام ذلك البقاء لصالح العباد، ولدلالة الناس على الرشاد، وهكذا شأن الحجة بن الحسن المنتظر عجل الله فرجه. فصار دليل المؤمنين في السر، وهاديهم في الخفاء. فالخضر والحجة (عليهما السلام) ما زالا غائبين عن العيون ولا يراهما أحد إلا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان، وأين ذلك المؤمن؟! نعم إنما يرى مثل ميثم الخضر (عليه السلام). يقول الأصبغ بن نباتة: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يصلي عند الاسطوانة السابعة من باب الفيل مما يلي الصحن، إذ أقبل رجل عليه بردان خضراوان، وله عقيصتان سوداوان، أبيض اللون، فسلم وأكب على أمير المؤمنين يقبل رأسه، ثم أخذ بيده وخرج من باب كندة، فخرجنا خلفهما مسرعين، فاستقبلنا أمير المؤمنين (عليه السلام) راجعا فقال: ما لكم؟ فأخبرناه خوفنا عليه، فقال هذا أخي الخضر (عليه السلام) إنه قال لي حين أكب علي إنك في مدرة لا يريدها جبار بسوء إلا قصمه الله وخرجت معه أشيعه. وجاء الخضر مرة أخرى فإذا ميثم التمار يصلي إلى تلك الاسطوانة فقال: يا صاحب سر علي إقرأ صاحب الدار السلام يعني عليا (عليه السلام) وأعلمه أني بدأت به فوجدته نائما (بحار الأنوار ج 9 ص 375) وفي رواية إنني جئت إليه لأنني رأيته في المنام. وأن مثل هؤلاء لا يفوتهم مرأى الخضر (عليه السلام) فإن الخضر إن غاب عن الناس فلا يغيب عن لبابهم وأبدانهم. ومن هذا المنطلق سعى ميثم أن ينشر فضائل ومناقب الإمام علي (عليه السلام) بصورة خاصة وفضائل أهل البيت (عليهم السلام) بصورة عامة وفضح مخازي بني أمية لا سيما معاوية ومن سار خلفه، ولقد عرف ميثم إمامه وآمن به كما عرف ربه ونبيه وآمن بهما إيمانا مطلقا لا تشوبه شائبة. وقد سئل الإمام (عليه السلام) يوما عن ميثم فقال: أين يوجد مثل ميثم، لو كان في الناس أمثال ميثم لكانت السعادة قد غمرت الدنيا جميعا . ولم يكن ميثم يعلم ما سيجري عليه من صلب، وقتل، وتقطيع، ولجم، ومن سيقتله، ومتى، وأين، وكيف، فحسب، بل كان يعلم ما سيجري على الآخرين أيضا. فقد التقى ميثم ذات يوم (بحبيب بن مظاهر الأسدي) في مجلس (بني أسد) وجرى بينهما حوار وحديث طويل، والناس صامتون يستمعون لحوارهما، وأخيرا قال حبيب بن مظاهر الأسدي: كأني بشيخ أصلع ضخم البطن يبيع البطيخ عند دار الرزق قد صلب في حب أهل بيت نبيه (عليه السلام) ويبقر بطنه على الخشبة، وكان يقصد بذلك ميثم التمار ، ولم يكترث ميثم بذلك لعلمه مسبقا. فقال له ميثم، وإني لأعرف رجلا أحمر له ظفيرتان يخرج لنصرة ابن بنت نبيه (صلى الله عليه وآله) فيقتل ويجال برأسه في الكوفة، وكان يقصد بذلك حبيب بن مظاهر الأسدي ، ثم افترقا. وضحك منهما من كان حاضرا استهزاء وسخرية وقالوا: ما رأينا أكذب من هذين، ولم يفترق أهل المجلس حتى أقبل رشيد الهجري فسأل عنهما فقيل له إنهما افترقا وكان من أمرهما كذا وكذا.. فقال رشيد الهجري: رحم الله ميثما لقد نسي أن يقول بأن الشخص الذي سيحمل رأس حبيب بن مظاهر إلى الكوفة سيمنح جائزة مقدارها مائة درهم. فقال الجالسون: والله إن هذا الرجل أي رشيد الهجري أكذب منهما، يعني حبيب وميثم، فما ذهبت الليالي والأيام حتى وقع كل ذلك، وأدرك هؤلاء الجمع من الناس أن ما قاله، ميثم التمار، وحبيب بن مظاهر، ورشيد الهجري كان صحيحا. ما أجهل الناس، وما أنكرهم للعلم، إن الناس أعداء ما جهلوا كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) وهم يعلمون أن هؤلاء الصفوة كانوا من خواص الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ومن حملة علومه، ويعلمون بأنهم أعلم أهل الكوفة في المعارف والفضائل، والورع، والتقوى، فما حدى بهم للإنكار عليهم والتسرع في تكذيبهم، والاستهزاء بهم، فما يدري المرء من أيهما يعجب أمن احتمال هؤلاء لهذه العلوم الغامضة التي لا يحتملها إلا نبي أو وصي، أو مؤمن امتحن الله قلبه، أو من تسرع أولئك الناس لتكذيبهم؟ لا عجب فإن الله تعالى يجعل من عباده الصالحين من يكونون في الناس قدوة حسنة وحجة على من ينكر مثل هذا العلم، لأن الناس أعداء ما جهلوا. ولكن جذور الإيمان لم تنعدم عند بعض الجالسين، مهما انصهروا في بوتقة الزمن المنحرف، وهم من صحبوا الإمام (عليه السلام)، ونهلوا من بعض معارفه، فقد ثقلت عليهم هذه السخرية اللاذعة، وهذا الأسلوب النابي من أن تلوك الأفواه هذه الصفوة من حواري الإمام (عليه السلام) فالتفت أحدهم إلى الساخر وفي نظراته سيل من العتاب وقال: على مهلك يا هذا لقد ذهبت بك الظنون بعيدا عن الواقع بحق هؤلاء الصفوة من المؤمنين، أما كان الأجدر بك أن تتريث وتفكر قليلا ثم تحكم، إني لا أشك أن ما تحدث به ميثم، وحبيب، ورشيد هي أمور سوف تحدث بعد، والإخبار بالمغيبات منحة إلهية، منحها الله أنبياءه، ورسله، والإمام علي (عليه السلام) أكثر الناس صلة بابن عمه رسوله (صلى الله عليه وآله) وهو الأولى أن يوقفه الرسول على أحوال صحابته ويكشف له عن هذه الأمور وأمثالها، وقد رأينا الكثير من الوقائع التي أشار إليها (عليه السلام) في كلامه قد تحققت بعد زمان، وعهدنا ليس ببعيد بقصة ذي الثدية من يوم النهروان وإخباره عن ابن عمه (صلى الله عليه وآله) بأن عمارا تقتله الفئة الباغية وغير ذلك كثير!! فلا تكن قاسيا على الصفوة من عباد الله الصالحين، فسكت الجميع وأشاح الرجل بوجهه عنه حياء.
وانتشر الحديث، ومضت الليالي والأيام، فنسيه قوم، وحفظه آخرون، وتطلعوا إلى نتائجه، واشتدت الأزمة، وتفاقم الخطب على أصحاب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وترقب الناس ما وراء الأحداث، وما يخبئه الغد المظلم بين طياته، لأمثال هذه الصفوة من أصحاب الإمام (عليه السلام) ومن شايعه. ومضى زمان، ومرت الأحداث، وإذا عبيد الله بن زياد، الطاغية يتولى إمارة الكوفة، وكان من أهم أهدافه، القضاء على البقية الباقية من الصفوة المعارضة لسياسة بني أمية، خلفا لأبيه زياد بن أبيه، الذي تولى تصفية الشيعة جسديا من قتل وإبادة شعب موال كامل. وقد نفذ ابن مرجانة كل ما تنبأ به حبيب بن مظاهر، وميثم التمار، ورشيد الهجري. كان الإمام (عليه السلام) لا يأنس إلا بهم ولا يستريح إلا عندهم، وخاصة عندما يمر بالسوق ويجلس عند دكان ميثم التمار يحدثه، ويرشده، ويعلمه، ويعضه، وربما يرسله لبعض شأنه فيجلس الإمام (عليه السلام) مكانه يبيع التمر لمن يشتري، وذات يوم جاء رجل واشترى تمرا بدرهم بهرج - أي بنقود مزيفة - فلما رأى الإمام (عليه السلام) ذلك، قال: سيجد هذا الرجل التمر مرا فيرجعه، وبعد قليل جاء الرجل ليرد التمر فرد عليه الإمام (عليه السلام) نقوده المزيفة (البحار ج 9 ص 375 عن مناقب ابن شهرآشوب)، ونصحه ووعظه أن لا يعود لمثله. إن جلوس الإمام (عليه السلام) في محل ميثم، وهو أمير المؤمنين، وخليفة رسول رب العالمين والحاكم على المسلمين يبيع التمر بدلا من صاحبه لدليل قاطع على عظمته، وشدة تواضعه، وضربه المثل الأعلى بالمساواة بين المسلمين، وتعظيم العلم والعلماء الفاضلين، والصالحين. عجبا كيف لا يأخذ هذا الرجل العجب، ويتداخله الكبر والزهو ويرى أن إمامه يعامله بهذه الصورة، وهو الذي كان عبدا مملوكا لامرأة بالأمس؟ هناك تشابه كبير بين سلمان الفارسي، وميثم
التمار في بعض الأمور. مثلا.
أ - كان سلمان مملوكا لامرأة يهودية في المدينة فاشتراه النبي (صلى الله عليه وآله) وأعتقه، وقربه وأدناه، حتى صار من أهل البيت، وصار سلمان المحمدي. وكان ميثم التمار مملوكا لامرأة أسدية في الكوفة، فاشتراه الإمام (عليه السلام) وأعتقه، وقربه وأدناه، حتى صار أقرب الناس إليه، ومن حواريه وحملة سره.
ب - أخذ سلمان العلم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى صار أعلم أصحابه ثم أخذ العلم من بعده عن أمير المؤمنين (عليه السلام). وأخذ ميثم العلم عن إمامه أمير المؤمنين (عليه السلام) حتى صار أعلم أصحابه وأفقههم ثم أخذ العلم من بعده عن ولديه الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام).
ج - كان أول عهد سلمان بالنبي (صلى الله عليه وآله) في المدينة، وكان أول عهد ميثم بأمير المؤمنين في الكوفة، وكان العهد قصيرا في مصاحبة سلمان لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ومثله في مصاحبة ميثم لأمير المؤمنين (عليه السلام)، غير أن عهد ميثم بالإمام (عليه السلام) كان أقصر من عهد سلمان بالنبي (صلى الله عليه وآله) فسلمان قضى عشرة سنين مع النبي (صلى الله عليه وآله) بالمدينة، وميثم أربع سنين مع الإمام في الكوفة. والعجب من هذين الشخصين كيف اكتسبا هذه العلوم الجمة في هذه الفترات القصيرة؟ أجل: لأن المعلم بصير، والمعدن نفيس.
اطلاع الإمام علي (ع) له على استشهاده
كان الإمام (عليه السلام) يختصه بنفيس علومه، ويطلعه على مكنون أسراره. حتى أنه كان (عليه السلام) يطلعه على ما سيجري عليه، وما سوف يصنعه به أعداؤه قال: ميثم ومن يصنع ذلك بي يا أمير المؤمنين؟ فقال: يأخذك العتل الزنيم ابن الأمة الفاجرة ابن زياد ويروي له نبذا من فضيع التعذيب الذي يلاقيه وهو يقول: هذا في الله قليل حتى قال له يوما: إنك تؤخذ بعدي فتصلب وتطعن بحربة، فإذا كان اليوم الثالث ابتدر منخراك وفمك دما [عبيطا] فيخضب لحيتك، فانتظر ذلك الخضاب، وتصلب على باب دار عمرو بن حريث عاشر عشرة وأنت أقصرهم خشبة وأقربهم من المطهرة (حوض فيه ماء يتطهر منه الناس). وامض معي حتى أريك النخلة التي تصلب على جذعها، فأراه إياها. ويروى أن ابن زياد مر بجيشه يوما على تلك النخلة أو الشجرة فتعلق العلم بتلك الشجرة وتمزق، فتشائم ابن زياد من هذا الحادث، فأمر بقطع تلك الشجرة، وتم بيعها على أحد النجارين فقطعت أربع قطع. وكان ميثم يتتبعها فقال لابنه صالح، خذ مسمارا واكتب اسمي واسم أبي على إحدى هذه القطع. يقول صالح: فعلت ذلك، وعندما صلبوا والدي، وجدت أنهم وضعوه على نفس الخشبة التي نقشت عليها إسمه. وكان ميثم يأتيها فيصلي عندها ويقول: بوركت من نخلة، لك خلقت ولي غذيت، ولم يزل يتعاهدها حتى قطعت، وحتى عرف الموضع الذي يصلب عليه بالكوفة، كان يلتقي بعمرو بن حريث فيقول له إني مجاورك فأحسن جواري، فيقول له عمرو: أتريد أن تشتري دار ابن مسعود، أو دار ابن حكيم؟ وهو لا يعلم ما يريد. وحج ميثم في السنة التي قتل فيها، فدخل على أم المؤمنين، أم سلمة (رضي الله عنهما). فقالت: من أنت؟ قال: أنا ميثم التمار، قالت: والله لربما سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوصي بك عليا في جوف الليل، فسألها عن الحسين (عليه السلام) قالت: هو في حائط (الحائط البستان) له ويذكرك دائما، قال: أخبريه إني قد أحببت السلام عليه، ونحن ملتقون عند رب العالمين إن شاء الله، فدعت له بطيب فطيبت لحيته، وقالت له: أما إنها ستخضب بدم؟ فقدم ميثم الكوفة بعد الحج، وقد اشتد ابن زياد بظلم أهل الكوفة وفرض الضرائب، وتعسف عامله على السوق، وما كان لميثم وأصحابه أن يصبروا على أساليب القوم الوحشية، واستهتارهم بالحكم فخرجوا في تظاهرة قاصدين دار الإمارة، فتقدم ميثم المظاهرة من أهل السوق وخطب أمام ابن زياد، وهو يستمع إليه، ويعجب بفصاحته، فيأمر بحبسه وحبس المختار بن أبي عبيدة معه، فقال ميثم للمختار: إنك تفلت من قبضة هذا الطاغية، وتخرج عليه ثائرا بدم الحسين (عليه السلام) فتقتل هذا الذي يقتلنا، فلما دعا عبيد الله المختار ليقتله، طلع البريد بكتاب يزيد إلى عبيد الله يأمره بإطلاق سراح المختار وتخلية سبيله فخلاه، وذلك بشفاعة عبيد الله بن عمر بن الخطاب لأنه كان زوج أخت المختار. ثم أدخل ميثم على عبيد الله بن زياد، فقيل له: هذا كان من آثر الناس عند علي، قال: ويحكم هذا الأعجمي؟؟ قيل له نعم قال ابن زياد: من ربك؟ قال: بالمرصاد لكل ظالم، وأنت أحد الظلمة، قال: إنك على عجمتك لتبلغ الذي تريد؟ ما أخبرك صاحبك إني عاقل بك؟... الخ، وكان عمرو بن حريث عنده، فقال أصلح الله الأمير أتعرف هذا المتكلم؟ قال ابن زياد: لا. فقال ابن حريث، هذا ميثم التمار، الكذاب مولى الكذاب علي بن أبي طالب دهش ابن زياد، وشد على أسنانه، واستوى جالسا والتفت إلى ميثم قائلا: ما يقول هذا؟ وأشار إلى عمرو بن حريث. قال ميثم: كذب هذا الرجل، بل أنا الصادق، مولى الصادق علي بن أبي طالب أمير المؤمنين حقا، فأربد وجه ابن زياد واحمرت عيناه وصاح بميثم قم واصعد المنبر، وتبرأ من علي واذكر مساويه، وإلا قطعت يديك، ورجليك، وصلبتك، فانسابت دموع ميثم منهمرة على لحيته الطاهرة، وظن ابن زياد أن هذه الدموع وليدة الخوف والجزع فالتفت ابن زياد إليه قائلا: بكيت من القول دون الفعل؟ فقال: والله ما بكيت من القول، ولا من الفعل، ولكن بكيت من شك خامرني يوم أخبرني سيدي ومولاي. فافتعل ابن زياد ابتسامة صفراء وقال: وما قال لك صاحبك؟ قال ميثم قال إمامي علي (عليه السلام) والله ليقطعن يداك ورجلاك، ولسانك، ولتصلبن عاشر عشرة، أقصرهم خشبة، وأقربهم من المطهرة، وتعلق على باب دار عمرو بن حريث، فقلت من يفعل ذلك بي يا أمير المؤمنين؟ قال: يأخذك العتل الزنيم ابن الأمة الفاجرة عبيد الله بن زياد. فاستشاط ابن زياد غضبا، وأربد وجهه واحتقن، ونطت عروقه وصرخ قائلا: لنخالفه ونكذب صاحبك قال ميثم: كيف تخالفه؟ والله ما أخبرني إلا عن الصادق الأمين رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولقد عرفت الموضع الذي أصلب فيه، وإني أول خلق الله ألجم في الإسلام. فقال ابن زياد: والله لأقطعن يديك، ورجليك، ولأدعن لسانك حتى أكذبك، وأكذب مولاك، وزحف ابن زياد من على سريره، وهو يهدر كالثور الهائج من الغضب، وصاح بجلاديه اقطعوا يديه ورجله وأريحوني منه، وكان ما أراد، ثم أمر بإخراجه وصلبه على باب دار عمرو بن حريث، واحتشد الناس على ميثم، وهو بتلك الحالة يعالج جراحه، وطافت بنفسه أمنيات، كما دارت برأسه أفكار وأفكار، وتجسد أمامه عاملان، حق، وباطل، لقد تحمل كل هذا العذاب بسبب ولائه للحق المتمثل بإمامة علي بن أبي طالب (عليه السلام) والآن وقد تمثل الموت أمامه، وأنشب أنيابه فيه، وبينه وبين النهاية المشرقة كلمة يلقيها لتنير الدنيا في خضم ظلمة الجور الأموي وباطله، وعلى الرغم من جراحاته العميقة وقطع يديه ورجليه، ولكنه لم يفقد إيمانه بعقيدته، بل ازداد صلابة وتصميما، ولمس في نفسه العزم والتصميم على مواصلة كفاحه، وإبلاغ رسالته ونشر فضائل إمامه وأهل البيت ومناقبهم، وهدر كالبركان الثائر يحدث الناس وينشر فضائل أهل البيت ومناقبهم، وكشف زيف بني أمية وكذبهم ومخازيهم وفضائحهم. وصاح عندما رفع على الخشبة وصلب عليها قائلا: أيها الناس من أراد منكم أن يستمع الحديث المكنون وأقوال مولاي علي بن أبي طالب (عليه السلام) قبل موتي، فوالله لأخبرنكم بعلم ما يكون إلى أن تقوم الساعة، وما يكون من الفتن. فما هذا الحديث المكنون وعلم ما يكون؟ أليس ذلك أوسع علما من المنايا والبلايا؟؟ فالتف الناس حوله، واستمعوا إلى كلامه، وهو يتحدث عن فضائل أهل البيت، ومساوي بني أمية، حتى أبلغوا ابن زياد بأن هذا الرجل قد فضحك، وإذا بقي يتكلم لعدة ساعات، فإنه سيحرك الناس ضدك. فأمر ابن زياد أن يوضع اللجام في فمه، ولكن ميثم لم يمنعه ذلك فأخذ يتكلم بأي صورة يستطيع بها إفهام الناس قصده. مر عمر بن حريث على ميثم في طريقه إلى منزله، فسمع يتحدث عن فضائل الإمام (عليه السلام) وكشف مساوي بني أمية. فعاد إلى ابن زياد مسرعا وقال له: أصلح الله الأمير بادر فورا إلى ميثم التمار من يقطع لسانه، ويريح بني أمية منه، فإني لست آمن أن تتغير قلوب أهل الكوفة فينقلبوا عليك، لقد أخذا هذا العبد يتحدث عن فضائل علي، ويذكر الناس بعدله، وحكمه وقربه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويكشف مخازي ومثالب بني أمية وجورهم. وهال ابن زياد هذا الأمر وجن جنونه، وأمر سيافه أن يبادر فورا إلى قطع لسانه، ولما وصل السياف إلى ميثم، والناس تبتعد عنه رعبا، ووقف أمام ميثم، وغرق في تفكيره قائلا: ماذا يخيفك يا أمير من هذا الجريح الذي سيلفظ أنفاسه بعد قليل؟ ولم يطل التفكير بالجلاد، بل تقدم إليه، وألقى إليه أمر ابن زياد، فأشرق وجه ميثم، وتهللت أساريره، وأعجب الحاضرون منه فشعر الجريح بهذا المعنى، فقال: لا تعجبوا لقد زعم ابن الأمة الفاجرة ابن زياد أن يكذبني، ويكذب مولاي الإمام (عليه السلام) لقد خاب ظنه، وتاه فأله، هاك لساني يا سياف فاقطع، ونفذ فيه أمر أميرك، وسيجزي الله الصابرين، فنفذ ما أمر به. ومضى ميثم على تلك الحالة يعالج فيها جراحه ونفسه، ورغم شدة آلامه لم يتغير ولم ينهار بل ازداد صلابة وإصرارا. وفي اليوم الثاني ابتدر منخراه وفمه دما عبيطا قبل غروب الشمس أو عندها فخضبت لحيته بالدماء، وفي اليوم الثالث جاء إليه رجل من أوباش أهل الكوفة وقد أشار إليه بالحربة وهو يقول: والله لقد كنت، ما علمتك إلا قواما، صواما، ثم طعنه بالحربة في خاصرته فأجافه (الإجافة: إدخال الحربة أو الرمح في الجوف)، فكبر وفاضت روحه الزكية (رجال الكشي ج 1 ص 293، 136، الاختصاص: 75، شرح النهج لابن أبي الحديد ج 2 ص 291، ابن حجر في الإصابة ج 3 ص 504، ونقله العلامة المجلسي في البحار ج 42 ص 124 / 7)، وأسلم نفسه إلى ربه شاكيا ظلم بني أمية، وجورهم، وطغيانهم، وبقي مصلوبا عدة ليالي ولم يسمح ابن زياد بإنزاله، حتى أخذت الحمية بعض التمّارين ورأوا أن بقاء ميثم على هذه الحالة عار عليهم فجاؤا إليه في ظلام الليل وأنزلوه من على خشبته، وأخذوه بعيدا فدفنوه غفلة من أعين الحراس، في جامع المراد وهو حي بني مراد من مذحج محل مرقده الحالي. ونشرت الليالي أبرادها حزينة كئيبة، وقد اتشحت بحمرة الدم، وتحدث القوم في مجالس الكوفة، لا سيما في مجلس بني أسد، لقد صدق زعيم بني أسد حبيب بن مظاهر بقوله: لكأني بشيخ أصلع، ضخم البطن، يبيع البطيخ عند دار الرزق، قد صلب في حب أهل بيت نبيه، تبقر بطنه على الخشبة!! وحسب القوم أن ميثما مات، وانتهت أخباره، وقد خاب ظنهم فإن ذكر ميثم لن يموت ويبقى مع الدهر، ما دامت الشمس ساطعة، لأن صاحبها ممن أخلص لله دينه ولعقيدته، وجاهد في سبيلها ووقف في وجه الظالمين العتاة دون خشية ورهبة، آثر الآخرة على الدنيا، فقال كلمته الرائعة بصدق، ووفاء، وعزم، وإخلاص. فسلام عليه يوم ولد ويوم أسلم وجاهد، ويوم استشهد، ويوم يبعث حيا. اتفقت الروايات أن يوم قتله كان قبل قدوم الإمام الحسين (عليه السلام) كربلاء بعشرة أيام، وكان قدومه (عليه السلام) في الثاني من شهر محرم الحرام سنة 61 هجرية فتكون شهادة ميثم في الثاني والعشرين من ذي الحجة عام 60 هجرية. اجتمع سبعة من التمّارين فتواعدوا على إنزاله من خشبة الصلب ودفنه ليلا، بعد أن أبى ابن زياد دفنه.
فجاؤوا إليه ليلا والحرس حوله، وقد أوقدوا النار فحالت بينهم وبين الحرس، فاحتملوه بخشبة حتى انتهى به إلى فيض من ماء في مراد (بنو مراد فخذ من قبائل مذحج، وكان لهم مسجد، هو موقع قبره حاليا - انظر تاريخ الكوفة للبراقي ص 108، يذكر فيها جامع مراد) فدفنوه فيه، ورموا الخشبة بعيدا، فلما أصبحوا بعث ابن زياد الخيل فلم يجد شيئا. جاءت الأخبار أنه صلب وكان عاشر عشرة، ولا بد أن يكون هؤلاء التسعة من الشيعة ومن أعيانهم، ولم يذكر التاريخ من هم. كان لميثم رحمه الله، صفوة منتخبة من الأولاد، والأحفاد، أنالهم ميثم شرفا وفخرا، ومثله من يحبو بنيه الفخر والشرف. أما أولاده: فقد ذكروا أن له ستة أولاد، وهم: محمد، وشعيب، وصالح، وعلي، وعمران، وحمزة.
وقال ابن حجر: في سلسلة هذا الحديث: وهذه سلسلة شيعية من الغلاة في الرفض، فلا يفرح به، لقد كفى هذه السلسلة فضلا ووثاقة هذا الجرح اللاذع، والطعن القارص من ناصبي فاضح. وإذا أتتك مذمتي من ناقص * فهي الشهادة لي بأني كامل.
بعض من اقوال ميثم
إليك بعض ما فاه به ميثم عن علم المنايا، والبلايا الذي علمه به إمامه (عليه السلام)، فكم أخبر به عن تلكم الوقائع، والآجال، وكم كان صدره يتسع منها، وستقرأ شيئا يسيرا منه. دخل ميثم يوما على أمير المؤمنين (عليه السلام) فوجده نائما، فنادى بصوت مسموع، إنتبه أيها النائم فوالله لتخضبن لحيتك من رأسك (رجال الكشي) إن ميثما لا يريد بهذا أن يعلم الإمام (عليه السلام) بما لم يعلم، وهل أخذ هذا العلم إلا منه؟ وإنما يريد أن يعرف الناس ما يجري على إمامهم (عليه السلام) ويعرف الناس ما عند ميثم من العلم لينتفعوا بعلمه ويستفيدوا من تعاليمه.
اجتمع ميثم التمار في حبس زياد، بعد مقتل مسلم بن عقيل، وأخبر المختار بأنه سيفلت من حبس ابن زياد، ويخرج عليه، ثائرا بدم الحسين، ويقتل ابن زياد، ويطأ رأسه برجله.
وقال صالح بن ميثم، أخبرني أبو خالد التمار قال: كنت مع ميثم التمار يوم الجمعة في سفينة بالفرات فهبت ريح عاصفة،
قال: فخرج ميثم ونظر إلى الريح فقال شدوا سفينكم إن هذا الريح العاصف ينبئنا بموت معاوية الساعة! قال: فلما كانت الجمعة المقبلة قدم بريد من الشام فلقيته فاستخبرته، فقلت ما الخبر؟
قال: الناس على أحسن حال، ولكن توفي معاوية، وبايع الناس ابنه يزيد، قال: قلت أي يوم توفي؟ قال: الجمعة الماضية. كان ميثم ينعى الإمام الحسين (عليه السلام) في كل فرصة، تقول جبلة المكية سمعت ميثما التمار يقول: والله لتقتل هذه الأمة ابن بنت نبيها في المحرم لعشر مضين منه، وليتخذ أعداء الله ذلك اليوم عيدا وبركة، وإنه لكائن قد سبق في علم الله ذكره، بهذا عهد إلي مولاي وإمامي (عليه السلام) وأخبرني بأنه يبكي عليه مؤمنو الجن والإنس وكل شيء حتى الوحوش في الفلوات والحيتان في البحار، والطير في كبد السماء، وتبكي عليه الشمس والقمر والنجوم والسماء، والأرض، وجميع ملائكة السموات والأرضين، وحملة العرش، وتمطر السماء دما ورمادا، ووجبت لعنة الله على قتلة الحسين، كما وجبت على المشركين، وكما وجبت على اليهود والنصارى والمجوس. يا جبلة إذا نظرت إلى الشمس حمراء كأنها دم عبيط فاعلمي أن سيد الشهداء الحسين بن علي قد قتل. قالت جبلة: فخرجت ذات يوم [وكان العاشر من محرم] فرأيت الشمس على الحيطان كأنه الملاحف المعصفرة، فصحت وبكيت وقلت: قد والله قتل الحسين بن علي (عليه السلام) (ميثم التمار للسيد المغرم، عن أمالي الصدوق).
وقال ميثم التمار لحكيم الصيرفي أبي سدير: يا حكيم ترى هذا المكان ليس يؤدى في طسق (الطسق: أي الضريبة) ولئن طالت بك الحياة لتؤدي هذا المكان إلى رجل في دار الوليد بن عتبة يقال له زرارة، ولم تمض الأيام حتى أديت مرغما إلى رجل في دار الوليد بن عتبة يقال له زرارة. ولا نستغرب هذا العلم من ميثم بعد أن أخذ علمه عن إمامه الذي استودعه غامض علمه، وأسراره. كان ميثم موضع تقدير النبي (صلى الله عليه وآله) قبل أن يراه ويوصي به الإمام (عليه السلام) كما كان تقدير الإمام علي (عليه السلام) نفسه، وكذلك تقدير الإمامين الحسن والحسين، وكان الإمام الحسين (عليه السلام) يذكر ميثم عند أم المؤمنين أم سلمة وقد أخبرته حين زارها، وهذا الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام) يقول: إني لأحبه حبا شديدا (خلاصة العلامة في صالح بن ميثم) وكفى منزلته العلمية عند الأئمة (عليهم السلام) ما يرويه ابنه صالح قال: قلت لسيدي أبي جعفر الباقر (عليه السلام) حدثني، فقال (عليه السلام): أما سمعت الحديث من أبيك؟ قلت: لا كنت صغيرا، فكأن الإمام الباقر (عليه السلام) يشير إلى أن ميثما قد احتمل من علم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ما يغني ابنه لو روى عنه من علومه. وهذا الإمام أبو عبد الله الصادق (عليه السلام) يترحم عليه ويذكره مكبرا مقامه. وهل يترحم الإمام على أحد إلا إذا كان من أهل الإيمان الثابت والعلم الرفيع؟ فهذا شأن ميثم عند الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام).
حديث الصعب المستصعب يقول صالح بن ميثم حدثني أبي قال: بينا أنا في السوق إذ أتاني الأصبغ بن نباتة، فقال لي: ويحك يا ميثم لقد سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: إن حديثنا صعب مستصعب، ولا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل، أو مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان، فقمت من فوري وأتيت الإمام (عليه السلام) وقلت: جعلت فداك، حديث عنك أخبر به الأصبغ ضقت به ذرعا، قال: فما هو؟ فأخبرته به. قال: إجلس يا ميثم، أو كل علم العلماء يحتمل؟ قال الله تعالى لملائكته: *(إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)* فهل رأيت الملائكة احتملوا العلم؟ فقلت هذا والله أعظم من تلك، وقال (عليه السلام): والأخرى عن موسى (عليه السلام) أنزل الله عليه التوراة فظن ألا أحد أعلم منه فأخبره الله تعالى بأن في خلقه من هو أعظم منه [علما] وذلك إذ خاف على نبيه العجب، فدعا ربه أن يرشده إلى العالم فجمع الله بينه وبين الخضر (عليه السلام) فخرق السفينة فلم يحتمل ذلك موسى، وقتل الغلام فلم يحتمله، وأقام الجدار فلم يحتمله، وأما المؤمن فنبينا محمد (صلى الله عليه وآله) أخذ بيدي يوم الغدير وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه فهل رأيت المؤمنين احتملوا ذلك، إلا من عصمه الله، ألا فابشروا، ثم ابشروا، ثم ابشروا، إن الله سبحانه قد خصكم بما لم يخص به الملائكة، والنبيين، والمؤمنين بما احتملتم من أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ملحق
الإرشاد : إنّ ميثم التمّار كان عبداً لامرأة من بنى أسد ، فاشتراه أمير المؤمنين منها وأعتقه ، وقال له : ما اسمك ؟ قال : سالم . قال : أخبرنى رسول الله أنّ اسمك الذى سمّاك به أبَوَاك فى العجم ميثم . قال : صدق الله ورسوله وصدقت يا أمير المؤمنين ، والله إنّه لاسمى . قال : فارجع إلي اسمك الذى سمّاك به رسول الله ودع سالماً . فرجع إلي ميثم واكتني بأبى سالم .
فقال له علىّ ذات يوم : إنّك تؤخذ بعدى فتُصلب وتُطعن بحربة ، فإذا كان اليوم الثالث ابتدر منخراك وفمك دماً فيخضب لحيتك ، فانتظر ذلك الخضاب ، وتُصلب علي باب دار عمرو بن حُريث عاشر عشرة أنت أقصرهم خشبةً وأقربهم من المطهرة ، وامضِ حتي اُريك النخلة التى تصلب علي جذعها . فأراه إيّاها . فكان ميثم يأتيها فيصلّى عندها ويقول : بوركتِ من نخلة ، لكِ خُلقتُ ولى غُذّيتِ . ولم يزل يتعاهدها حتي قُطِعت وحتي عرف الموضع الذى يُصلب عليها بالكوفة . قال : وكان يلقي عمرو بن حريث فيقول له : إنّى مجاورك فأحسن جوارى . فيقول له عمرو : أ تريد أن تشترى دار ابن مسعود أو دار ابن حكيم ؟
وهو لا يعلم ما يريد . وحجّ فى السنة التى قُتل فيها ، فدخل علي اُمّ سلمة رضى الله عنها ، فقالت : من أنت ؟ قال : أنا ميثم . قالت : والله لربّما سمعتُ رسول الله ½ يوصى بك عليّاً فى جوف الليل . فسألها عن الحسين ، قالت : هو فى حائط)الحائط هاهنا البُسْتان من النخيل إذا كان عليه حائط وهُو الجِدار (النهاية : ١ / ٤٦٢) ( له .
قال : أخبريه أنّى قد أحببت السلام عليه ، ونحن مُلتقون عند ربّ العالمين إن شاء الله . فدعت له بطيب فطيّبت لحيته ، وقالت له : أما إنّها ستُخضَبُ بدم .
فقدم الكوفة فأخذه عبيد الله بن زياد فاُدخل عليه فقيل : هذا كان من آثر الناس عند علىّ . قال : ويحكم هذا الأعجمى ؟ ! قيل له : نعم . قال له عبيد الله : أين ربّك ؟ قال : بالمرصاد لكلّ ظالم وأنت أحد الظلمة . قال : إنّك علي عُجمتك لتبلغ الذى تريد ، ما أخبرك صاحبك أنّى فاعل بك ؟ قال : أخبرنى أنّك تصلبنى عاشر عشرة ، أنا أقصرهم خشبةً وأقربهم من المطهرة . قال : لنخالفنّه .
قال : كيف تُخالفه ؟ ! فو الله ما أخبرنى إلاّ عن النبىّ عن جبرئيل عن الله تعالي ، فكيف تخالف هؤلاء ! ؟ ولقد عرفت الموضع الذى اُصلب عليه أين هو من الكوفة ، وأنا أوّل خلق الله اُلجم فى الإسلام . فحبسه وحبس معه المختار بن أبى عبيد ، فقال ميثم التمّار للمختار : إنّك تفلت وتخرج ثائراً بدم الحسين فتقتل هذا الذى يقتلنا . فلمّا دعا عبيد الله بالمختار ليقتله طلع بريد بكتاب يزيد إلي عبيد الله يأمره بتخلية سبيله فخلاّه ، وأمر بميثم أن يصلب ، فاُخرج فقال له رجل لَقِيَه : ما كان أغناك عن هذا يا ميثم ! فتبسّم وقال وهو يومئ إلي النخلة : لها خُلقت ولى غُذّيت ، فلمّا رُفِعَ علي الخشبة اجتمع الناس حوله علي باب عمرو بن حريث . قال عمرو : قد كان والله يقول : إنّى مجاورك . فلمّا صُلب أمر جاريته بكنس تحت خشبته ورشّه وتجميره) أجْمَرت الثوبَ وجَمَّرته إذا بَخَّرْته بالطيب (النهاية : ١ / ٢٩٣) ، فجعل ميثم يحدّث بفضائل بنى هاشم ، فقيل لابن زياد : قد فضحكم هذا العبد . فقال : ألجموه . فكان أوّل خلق الله اُلجم فى الإسلام . وكان مقتل ميثم رحمة الله عليه قبل قدوم الحسين بن علىّ العراق بعشرة أيّام ، فلمّا كان يوم الثالث من صلبه ، طُعن ميثم بالحربة ، فكبّر ثمّ انبعث فى آخر النهار فمه وأنفه دماً) الإرشاد : ١ / ٣٢٣ ، إعلام الوري : ١ / ٣٤١ ; الإصابة : ٦ / ٢٤٩ / ٨٤٩٣ عن المؤيّد بن النعمان ، شرح نهج البلاغة : ٢ / ٢٩١ عن أحمد بن الحسن الميثمى نحوه وراجع الاختصاص : ٧٦ (.
رجال الكشّى عن حمزة بن ميثم : خرج أبى إلي العمرة ، فحدّثنى قال : استأذنت علي اُمّ سلمة رحمة الله عليها ، فضربت بينى وبينها خدراً ، فقالت لى : أنت ميثم ؟ فقلت : أنا ميثم . فقالت : كثيراً ما رأيت الحسين بن علىّ ، ابن فاطمة صلوات الله عليهم يذكرك . قلت : فأين هو ؟ قالت : خرج فى غنم له آنفاً . قلت : أنا والله اُكثر ذكره فاقرئيه السلام فإنّى مبادر . فقالت : يا جارية اخرجى فادهنيه ، فخرجت فدهنت لحيتى ببان . فقلت : أما والله لئن دهنتها لتخضبنّ فيكم بالدماء . فخرجنا فإذا ابن عبّاس رحمة الله عليهما جالس ، فقلت : يا ابن عبّاس سلنى ما شئت من تفسير القرآن ، فإنّى قرأت تنزيله علي أمير المؤمنين وعلّمنى تأويله . فقال : يا جارية الدواة وقرطاساً ، فأقبل يكتب . فقلت : يا بن عبّاس ، كيف بك إذا رأيتنى مصلوباً تاسع تسعة أقصرهم خشبةً وأقربهم بالمطهرة .
فقال لى : وتكهن أيضاً خرق الكتاب . فقلت : مه احتفظ بما سمعت منّى فإن يك ما أقول لك حقّاً أمسكته ، وإن يك باطلا خرقته . قال : هو ذاك .
فقدم أبى علينا فما لبث يومين حتي أرسل عبيد الله بن زياد ، فصلبه تاسع تسعة أقصرهم خشبة وأقربهم إلي المطهرة ، فرأيت الرجل الذى جاء إليه ليقتله وقد أشار إليه بالحربة ، وهو يقول : أ ما والله لقد كنت ما علمتك إلاّ قوّاماً ، ثمّ طعنه فى خاصرته فأجافه فاحتقن الدم فمكث يومين ، ثمّ إنّه فى اليوم الثالث بعد العصر قبل المغرب انبعث منخراه دماً ، فخضبت لحيته بالدماء) رجال الكشّى : ١ / ٢٩٤ / ١٣٦ ، بحار الأنوار : ٤٢ / ١٢٨ / ١١ (.
خصائص الأئمّة (ع) عن ابن ميثم التمّار : سمعت أبى يقول : دعانى أمير المؤمنين يوماً فقال لى : يا ميثم كيف أنت إذا دعاك دعىّ بنى اُميّة عبيد الله بن زياد إلي البراءة منّى ؟ قلت : إذاً والله أصبر ، وذاك فى الله قليل .
قال : يا ميثم ، إذاً تكون معى فى درجتى .
وكان ميثم يمرّ بعريف قومه فيقول : يا فلان ، كأنّى بك قد دعاك دعىّ بنى اُميّة وابن دعيّها فيطلبنى منك ، فتقول هو بمكّة ، فيقول : لا أدرى ما تقول ، ولا بدّ لك أن تأتى به ، فتخرج إلي القادسيّة فتقيم بها أيّاماً ، فإذا قدمتُ عليك ذهبتَ بى إليه حتي يقتلنى علي باب دار عمرو بن حريث ، فإذا كان اليوم الثالث ابتدر من منخرى دم عبيط . قال : وكان ميثم يمرّ فى السبخة بنخلة فيضرب بيده عليها ، ويقول : يا نخلة ما غذّيتِ إلاّ لى ، وكان يقول لعمرو بن حريث : إذا جاورتك فأحسن جوارى ، فكان عمرو يري أنّه يشترى عنده داراً أو ضيعةً له بجنب ضيعته ، فكان عمرو يقول : سأفعل . فأرسل الطاغية عبيد الله بن زياد إلي عريف ميثم يطلبه منه ، فأخبره أنّه بمكّة ، فقال له : إن لم تأتنى به لأقتلنّك فأجّله أجلاً ، وخرج العريف إلي القادسيّة ينتظر ميثماً ، فلمّا قدم ميثم أخذ بيده فأتي به عبيد الله بن زياد ، فلمّا أدخله عليه ، قال له : ميثم ؟ قال : نعم . قال : اِبرأ من أبى تراب . قال : لا أعرف أبا تراب . قال : اِبرأ من علىّ بن أبى طالب . قال : فإن لم أفعل ؟ قال : إذاً والله أقتلك . قال : أما إنّه قد كان يقال لى إنّك ستقتلنى ، وتصلبنى علي باب عمرو بن حريث ، فإذا كان اليوم الثالث ابتدر من منخرى دم عبيط . قال : فأمر بصلبه علي باب عمرو بن حريث . فقال للناس : سلونى ، سلونى ـ وهو مصلوب ـ قبل أن أموت ، فو الله لاُحدّثنّكم ببعض ما يكون من الفتن ، فلمّا سأله الناس وحدّثهم ، أتاه رسول من ابن زياد ـ لعنه الله ـ فألجمه بلجام من شريط ، فهو أوّل من اُلجم بلجام وهو مصلوب ، ثمّ أنفذ إليه من وَجأ جوفه حتي مات ، فكانت هذه من دلائل أمير المؤمنين ) خصائص الأئمّة (ع) : ٥٤ ، رجال الكشّى : ١ / ٢٩٥ / ١٣٩ نحوه وفى صدره "يوسف بن عمران الميثمى قال : سمعت ميثم النهروانى يقول : دعانى أمير المؤمنين ¼ وقال : كيف أنت يا ميثم إذا . . ." (.
رجال الكشّى عن سدير عن أبيه أبى حكيم : اجتمعنا سبعة من التمّارين فاتّعدنا لحمله فجئنا إليه ليلا والحرّاس يحرسونه ، وقد أوقدوا النار فحالت بيننا وبينهم ، فاحتملناه بخشبته حتي انتهينا به إلي فيض من ماء فى مراد فدفناه فيه ، ورمينا بخشبته فى مراد فى الخراب ، وأصبح فبعث الخيل فلم يجد شيئاً
( رجال الكشّى : ١ / ٢٩٥ / ١٣٨ ، بحار الأنوار : ٤٢ / ١٢٩ / ١٢ )
مصادر البحث
معجم رجال الحديث للسيد الخوئي ج 19 / 93 - 94.
الإصابة لابن حجر 1 / 583 و3 / 504.
الأعلام للزركلي 7 / 336.
الإرشاد للمفيد 1 / 323.
شرح النهج لابن أبي الحديد 1 / 210 و2 / 291 و 292 و294.
أعيان الشيعة 10 / 198.
بحار الأنوار 9 / 375 و573.
تاريخ الكوفة للبراقي ص 180.
ميثم التمار - للشيخ محمد حسين المظفر.
ميثم التمار للسيد عبد الرزاق المقرم.
رجال الكشي ج 1 ص 136، 293.
شرح النهج ج 2 ص 291.
البحار ج 42 ص 124.
الاختصاص ص 75.